نشرت صحيفة "فايننشال تايمز"، أول من أمس، تقريراً حول الأسواق المالية في دول مجلس التعاون، مشيرة إلى ندرة النوافذ الإعلامية المتخصصة المؤهلة لتقديم التقارير التحليلية الموضوعية القادرة على توفير الوعي الاقتصادي المطلوب، لا سيما من جانب صغار المستثمرين، وهذه المشكلة سبق تناولها مراراً وتكراراً في هذه الزاوية وغيرها من الأعمدة والأبواب الصحفية دون جدوى. ولكن ما لفت الانتباه في تقرير الصحيفة البريطانية هو الكلام الذي نسبته إلى محرر بصحيفة محلية بشأن تفادي الصحف المحلية انتقاد بعض الشركات الخاصة خشية حرمانها من الدخل الإعلاني الذي تدره إعلانات هذه الشركات على خزائن الصحف، بينما قال آخر إن بعض الشركات ترفض نشر إعلاناتها في الصحف التي لا تنشر بياناتها الصحفية "حرفيا". النتيجة لذلك كله بالطبع- كما استنتجها التقرير- أن صغار المستثمرين باتوا تحت رحمة بيانات الدعاية والعلاقات العامة ولا يجدون نافذة إعلامية يمكن الاعتماد عليها في استقاء معلومات جدية شفافة حول الأوضاع الحقيقية للشركات وبالتالي اتخاذ القرارات الصائبة في قاعات التداول!
هذا الكلام يعيدنا إلى ثنائية الإعلام والإعلان، والتأثيرات المتبادلة بينهما، وهذا الاشتباك بات قدراً محتوماً يصعب الفكاك منه بالنسبة إلى صناعة الإعلام، فلا إعلام موضوعياً بنسبة مائة بالمائة ولا إعلام لوجه الله كما يقولون، ولكن في كثير من الحالات يمكن الهروب من دائرة التأثير المالي للمعلنين عبر آليات وقنوات عديدة، منها قوة تأثير الصحيفة لدى الرأي العام، بمعنى أن الصحيفة تستمد قوتها بالأساس من صدقيتها وارتفاع معدلات مقروئيتها وانتشارها وبالتالي تتقلّص فرص الضغط عليها بل تصبح المصالح متوازنة بينها وبين المعلنين، وهناك أيضاً مواثيق الشرف والاحتراف المهني التي تفصل تماماً بين الإعلان والإعلام، أي حظر ممارسة الصحفيين للعمل في التسويق والإعلانات، وهناك المنافسة وارتفاع سقف الحريات بما يجعل من ممارسة الضغوط على وسيلة إعلامية بمنزلة مغامرة قد تفقد المؤسسة الاقتصادية مكانتها، وفوق هذا وذاك هناك نوافذ إعلامية متعددة للحصول على المعلومات بما يجعل من شركاء "الكل" مسألة تفوق التصورات، وهناك شركات وساطة مالية محترفة يصعب في ظل وجودها الحديث عن تعتيم على معلومات معينة بخصوص شركة أو مجموعة من الشركات في السوق.
لو صدقنا أن صحفنا المحلية-أو بعضها على الأقل- ينزلق تحت سطوة مصالح الشركات الخاصة، فإننا نكون أمام معادلة تحتاج إلى وقفة متأنية، فالمسألة تحتاج إلى شفافية في النقاش، خصوصاً أن صناعة الإعلان في الدولة واعدة وتبشر بنمو هائل خلال السنوات المقبلة، حيث تشير الأرقام إلى أن سوق الإعلان في دولة الإمارات باتت الأولى في منطقة الشرق الأوسط متخطية السوق السعودية التي تربعت على عرش الإنفاق الإعلاني الإقليمي طيلة سنوات طويلة مضت، إذ بلغ حجم الإنفاق الإعلاني في الدولة العام الماضي نحو 3.32 مليار درهم بزيادة قدرها 43% عن العام السابق. وهذا قد يعني في إحدى دلالاته التحليلية أن الصراع بين الصحف على الفوز بالنصيب الأكبر من "كعكة" الإعلان قد يدفع البعض إلى تقديم "تنازلات" تمسّ المهنية والموضوعية، ولعل هذا آخر ما نتمناه في سباقنا نحو إعلام يواكب التطورات التنموية ويتماشى مع طموحاتنا لإمارات القرن الحادي والعشرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية