لقد حل الربيع على الكليات الأميركية هذا العام, على غير عادته, إذ يطالب فيه الطلاب هذه المرة, بضرورة تدخل بلادهم في شؤون دولة أخرى, بدلاً من الاحتجاج على مثل هذه التدخلات كما جرت العادة. وطوال الأشهر الماضية, ارتفعت أصوات الطلاب احتجاجاً على تلكؤ المجتمع الدولي وتباطئه في التدخل لوقف ما يصفونه بـ"أعمال التطهير العرقي الدائرة في إقليم دارفور السوداني". مواصلة لذلك الاحتجاج وتصعيداً له, يتوقع أن يشارك طلاب الكليات والجامعات الأميركية, في أكبر حشد طلابي لهم في العاصمة واشنطن, للدفع بالتدخل لوقف المأساة. غير أن عليهم التعامل مع شبح العراق, الذي سيخيم على موكبهم المرتقب هذا. فمثلما لاح شبح الصومال على واضعي السياسات والقرارات من قبل, مقدماً الأعذار والمبررات تلو الأخرى, على عدم الإسراع في التدخل في مأساتي البوسنة ورواندا في عقد التسعينيات, فربما يعرقل الشبح العراقي نوايا وآمال إنقاذ منكوبي دارفور هذه المرة.
وبسبب هذا الشبح, أصبح أكثر الناشطين السياسيين تقدماً وحماساً لضرورة وضع حد فوري للمأساة الإنسانية في الإقليم, على ريبة وارتباك إزاء ما يجب فعله على وجه الدقة واليقين. والملاحظ هنا أن الشعار الرئيسي الثابت الذي سيرفعه المتظاهرون ويكتبونه في لافتاتهم هو "أنقذوا دارفور... أيقظوا ضمائركم... هيا إلى الفعل الآن". غير أنه لا يزال مبهماً وغامضاً بعد, ما تعنيه عبارة "الفعل" الواردة في الشعار, وأي "ضمير" يريد المتظاهرون والمحتجون إيقاظه, من الناحية العملية.
ومع تزايد حدة الانتقادات الموجهة للحرب الأميركية على العراق, وبلوغها حد تجريم السياسة الخارجية الأميركية برمتها, فقد وجدت أقوى الأصوات التقدمية المنادية بسرعة التدخل المباشر في إقليم دارفور, نفسها أسيرة فخ الانتقادات الذي نسجته بأصواتها الحادة الناقدة. ففي الوقت الذي ترتفع فيه الأصوات, مطالبة بالتدخل الفوري في الإقليم, تواصل الأصوات ذاتها انتقاداتها لواشنطن بسبب استخدامها للقوة وشن حرب على دولة أجنبية هي العراق, دونما اعتبار يذكر من واشنطن للرأي العام الدولي ولا للمؤسسات الدولية، علماً بأن هذه الأصوات وصفت الحرب الأميركية على العراق بأنها اعتداء غاشم على دولة لا تشكل تهديداً ولا خطراً مباشراً على الولايات المتحدة. ولكن أليس حرياً أن تصدق الانتقادات ذاتها, على تدخلنا باسم إنقاذ إقليم دارفور السوداني؟
ثم هناك خطر التدخل العسكري الأحادي, الذي لا يقدم الحل الأمثل للمشكلة, خلافاً لما يراه الكثيرون من ناشطي دافور. ولعل هذه الحقيقة هي التي دعت بعض هؤلاء الناشطين من أمثال "نانسي بيلوسي", زعيمة الأقلية في مجلس النواب, إلى التمسك بضرورة ألا تقْدِم الولايات المتحدة على أي عمل عسكري, إلا إن كانت تنوب عن المجتمع الدولي, وبالتنسيق التام مع هيئاته ومنظماته, مثل الأمم المتحدة. وفي الاتجاه ذاته يعمل "تحالف أنقذوا دارفور" الذي يمثل مظلة عامة واسعة, ينشط من خلالها دعاة الفعل من أجل إنقاذ دارفور. فهؤلاء لا يرمي حثهم لإدارة بوش, لإقناعها بضرورة شن غارات جوية على المليشيات العسكرية القبلية المتهمة بارتكاب الفظائع التي يشهدها الإقليم, إنما تنصب جهودهم أكثر على إقناع البيت الأبيض, بضرورة توفير الدعم المالي لقوات حفظ السلام الإفريقية الموجودة حالياً في الإقليم, فضلاً عن دفع مبادرات الأمم المتحدة للمشاركة في عمليات حفظ السلام هناك.
ولكن السؤال الذي لابد من إثارته هو: هل تفلح قوات الاتحاد الإفريقي في وقف الانتهاكات الجارية في الإقليم؟ والإجابة المباشرة هي النفي القاطع بكل تأكيد. فهناك من أعضائها من يقف عقبة كأداء أمام استخدام القوة لوقف عمليات العنف المتفاقمة. إذن هل تفلح الأمم المتحدة في وضع حد للأزمة؟ والإجابة هنا تأتي سالبة أيضاً. وهذا هو في الواقع مكمن التناقض القائم في الحوار الدائر حول أزمة الإقليم. والمشكلة أن هذا التناقض يقف حجر عثرة أمام الحيلولة دون ذبح المدنيين الأبرياء هناك. والمشكلة أيضاً, أن الأمم المتحدة, إنما تتألف من مجموعة كبيرة من الدول, يعترض أكثرها على انتهاك السيادة السودانية. إذن هل يمكن أن تكون قوات حلف "الناتو" هي الحل؟ وهنا لابد من النفي كذلك, آخذين في الاعتبار المخاوف والتردد الأوروبي بشأن أي تورط لا تحسب عقباه في نزاعات الإقليم.
وإلى هنا نكون قد وصلنا عملياً إلى الاستنتاج القائل إن السبيل الوحيد لإنقاذ أهل دارفور, هو القوة الأميركية, تماماً مثلما حدث في البوسنة من قبل. غير أن مأساة أهل دارفور, إنما تتلخص في أن الكثيرين جداً من الناشطين من أجل إنقاذهم, يرون في تلك القوة الوحيدة المؤهلة, تلوثها بدوافعها وأطماعها الذاتية الخاصة, وبما لحق بها من عار وسوء, جراء خطأ استخدامها في العراق. وهناك فئة قليلة جداً من التقدميين, تدعو إلى حل الأزمة عن طريق العمل العسكري, إلا أنها تواجه معضلة أخلاقية تتمثل في اشتراط العمل العسكري في دارفور, بانسحاب القوات الأميركية من العراق, أ