أخطاء بلير و"حداثته" الوهمية


------------------


في كتابه الجديد: "سياسات النوايا الحسنة: التاريخ والخوف والنفاق في النظام العالمي الجديد"، يقول "ديفيد رونسيمان" إن سكرات الموت التي يعاني منها نظام توني بلير منذ وقت طويل، كان يجب أن تدفع الإنتجلنسيا الراديكالية في بريطانيا إلى التفكير في أسباب ذلك، كي تكتشف منذ وقت مبكر أن سبب ذلك الموت الإكلينيكي يرجع إلى النفاق السياسي لرئيس النظام، وجهله بالتاريخ، وخلطه عن عمد بين الواقع والوهم، وأنها لو كانت قد فعلت ذلك لكان من الممكن تجنيب بلادها ذلك الخطأ الفظيع الذي ارتكبه بلير عندما ورطها في مغامرة العراق. ويذهب المؤلف في نقده للإنتجلنسيا الراديكالية البريطانية إلى حد اتهامها بأن تقاعسها عن رصد سمات بلير في فترة مبكرة من حكمه يرجع إلى حقيقة أنها كانت تبحث عن منقذ، وبطل، وفارس، وأنها حاولت إقناع نفسها بأن بلير هو هذا الرجل.


ويرى المؤلف أن أي شخص عاقل لديه معرفة بوقائع القرن العشرين وما شهده من حروب وصراعات، لن يصدق ما قاله بلير ذات يوم وهو أن الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر قد غيَّر كل شيء، وأن الخطر الذي يمثله تنظيم "القاعدة" على نمط الحياة الغربية يفوق جميع الأخطار السابقة. كما أن مثل هذا الشخص لن يصدق أيضاً ما قاله بلير عقب تفجيرات لندن في شهر يوليو الماضي وهو "أن قواعد اللعبة قد تغيرت إلى الأبد" لأن الحقيقة هي أن القرن العشرين قد شهد العديد من الحروب التي خاضتها بريطانيا ضد الإرهاب: مثل حربها ضد الإرهاب الصهيوني في فلسطين أيام الانتداب، وحربها ضد إرهاب (حسب ما يقول) منظمة "أيوكا" القبرصية، وإرهاب "الماو ماو" في كينيا، وحربها التي استمرت لما يزيد على مائتي عام ضد الإرهاب الأيرلندي. المؤلف يرى أن كل تلك الحروب كانت تشكل تهديداً للأمن القومي البريطاني، يفوق بكثير التهديد الذي تمثله "القاعدة" الآن، والذي يزعم بلير أنه أخطر تهديد واجهته بلاده في تاريخها. وحول هذه النقطة يتساءل المؤلف في استنكار: هل "القاعدة" تشكل تهديداً لبريطانيا يفوق التهديد الذي كان يشكله أدولف هتلر، أو الذي كان يشكله جوزيف ستالين، أو حتى ذلك الذي كان يشكله نيكيتا خروشوف على سبيل المثال لا الحصر؟ ويتهكم المؤلف على ما قاله بلير عقب التفجيرات التي وقعت في لندن من أن تلك التفجيرات تشكل "تهديداً وجودياً لبريطانيا مصدره الإرهاب الإسلامي"، وهو هنا يعلق قائلاً: "ليس من الواضح ماذا كان يقصد بلير بذلك بالضبط... هل كان يقصد مثلاً أن ذلك التهديد يمس الدولة البريطانية، أم الشعب البريطاني، أم الطريقة البريطانية في الحياة؟"، فإذا ما كان يقصد تهديد وجود بريطانيا كدولة، فما قوله إذن عن التهديد الذي تعرضت له عام 1940 عندما كانت طائرات ألمانيا النازية تدكُّ لندن وتكاد تفنيها من الوجود؟ المؤلف يتخذ من تلك الأمثلة التاريخية أدلة يحاول بها إثبات مبالغات بلير الكلامية وجهله الفاضح بالتاريخ. وهو يرى أن مبالغات بلير الكلامية المتعددة غالباً ما تكون مقصودة وليست عفوية كما قد يعتقد البعض. من ذلك مثلا قوله إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد "غيرت العالم إلى الأبد"! فالمؤلف يرى أن بلير كان يدرك ما يقوله تماماً وأنه قام بتوظيفه لمصلحته، لأن إعلانه أن العالم قد تغير كان يعني من وجهة نظره أنه لم يعد ملزماً بتطبيق القواعد التي كانت تحكم العالم القديم، وأنه سيقوم بتطبيق قواعد جديدة (لا يعرفها أحد غيره)، لأنه سياسي ذو روح حرة، وغير مضطر للتقيد بأغلال الماضي. والمؤلف يرى أن بلير كان يسعى منذ أن جاء إلى الحكم للإيحاء بأنه يمثل نمطاً جديداً من الزعماء، وأنه رجل ذو فكر جديد، يسعى إلى آفاق جديدة، ويواجه تهديدات جديدة، ويرأس حزباً قام بتغيير اسمه ليصبح حزب العمال "الجديد" الذي سيشق طريقاً "جديداً" أيضاً أطلق عليه "الطريق الثالث". والمؤلف يرى أن الكثير من الأشياء التي ادعى بلير أنها جديدة لم تكن كذلك، وأنها في معظمها كانت أشياء تافهة وعديمة القيمة. من تلك الأشياء مثلا قوله إن ه