منذ عام 1967، قامت إسرائيل ولا زالت حتى اليوم تقوم بانتهاج سياسة التغيير الديموغرافي لمدينة القدس. وكل ذلك يأتي ضمن خطة تهدف دولة الاحتلال من ورائها إلى خلق واقع جديد عن طريق "تجميد" الوجود الفلسطيني في المدينة والسعي للقضاء عليه بصورة تدريجية باستبداله بأغلبية يهودية تجهد في تشجيعها للانتقال إلى القدس والتجذر فيها. وبالرغم من فشل إسرائيل المتواصل في وقف الاحتجاجات الدولية بهذا الخصوص، ناهيك عن انتزاع اعتراف دولي لهذا الانتهاك الصارخ لكل المواثيق الدولية، إلا أنها لا تزال تواصل إقامة "القدس الكبرى" حيث لجأت في سبيل ذلك إلى أساليب استعمارية عنصرية متعددة في مقدمتها توسيع حدود بلدية المدينة على حساب الأراضي الفلسطينية الأخرى، واستكمال تهويدها بإقامة الجدار العازل حولها بعد إحاطتها بسياج من المستعمرات الاستيطانية بهدف خلخلة التوازن الديموغرافي لصالح الإسرائيليين وبخاصة بعد أن بينت الدراسات الحديثة حقيقة أن العرب المقدسيين أصبحوا يشكلون حوالى ثلث مجموع السكان في "القدس الموحدة"!! وقد شقت إسرائيل، ممثلة ببلدية القدس، المزيد من الطرق الالتفافية حول المدينة المقدسة هادفة إلى طرد سكانها العرب من خلال تشديد الخناق عليهم والحد من تمكينهم من التمتع بحياة طبيعية عن طريق وضع العديد من القيود على حركتهم ونشاطهم.
وإضافة إلى هذه الممارسات الخانقة على الأرض، ليس أدل على حجم المخاطر التي تهدد مدينة القدس العربية من التصريحات العلنية لبعض كبار المسؤولين الإسرائيليين، وهي تصريحات تفضح نواياهم بكل وضوح. ففي الذكرى الثامنة والثلاثين لاحتلال القدس الشرقية في عام 1967، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون أن "القدس ملك لإسرائيل، وإنها لنا إلى الأبد ولن تكون أبداً بعد اليوم ملكاً للأجانب..."، وهو ما سبق وأن قاله أمام المؤتمر السنوي لمنظمة "إيباك" (إحدى أهم منظمات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية). أما الرجل الثاني في وزارة شارون آنذاك (شمعون بيريز) فقد قال –وهو "المعتدل الشهير"!!!- بضرورة التهجير الجماعي للفلسطينيين من مدينة القدس المحتلة بحجة بقاء القدس عاصمة لإسرائيل حيث إنه: "من الخطأ الاعتقاد بأنه يمكن ضمان بقاء القدس عاصمة الشعب اليهودي، وفي نفس الوقت تضم كل هذا العدد من الفلسطينيين"! وعلى صعيد سياسي متمم، فإن ما يزيد من خطورة وضع المدينة المقدسة يتجسد في الدعم غير المحدود الذي تلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة متمثلاً في مشروع قرار للكونغرس يشترط الاعتراف بمدينة القدس عاصمة موحدة غير مقسمة لإسرائيل مقابل الاعتراف بالدولة الفلسطينية مستقبلاً. هذا إضافة إلى المحاولات المحمومة والمتكررة لأنصار إسرائيل في الكونجرس الأميركي لإنجاز نقل سفارة واشنطن إلى القدس لتكريسها عاصمة للدولة العبرية. وهكذا، تحاول إسرائيل –باستماتة- فرض الأمر الواقع على الأرض وإنهاء قضية القدس في هذه المرحلة الخطيرة رغم أنها أحد أخطر وأهم ملفات الخلاف في عملية السلام. وفي سياق سياسي معاكس، تشكل الإجراءات الإسرائيلية انتهاكاً صارخاً للقرارات والقوانين الدولية، حيث ينص قرار مجلس الأمن (242) على أن القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة هي ضمن الأراضي المحتلة عام 1967، مما يقتضي عودة إسرائيل إلى "حدودها". إن عملية توسيع "المستوطنات"/ المستعمرات في الضفة والقدس وضم الأراضي بالقوة، يعد مخالفة لكل الاتفاقات والمعاهدات والقرارات الدولية التي ترفض "الاستيطان" وذلك وفقاً لاتفاقية لاهاي 1907 التي تحظر المادة (49) منها على سلطة الاحتلال مصادرة الأملاك الخاصة للمواطنين. وتقضي قرارات مجلس الأمن (446)، (465)، (471) بتفكيك "المستوطنات" وهو ما أشار إليه كذلك تقرير لجنة "ميتشيل" التي أكدت على حكومة إسرائيل بـ"تجميد جميع النشاطات الاستعمارية، بما في ذلك النمو الطبيعي لـ"المستوطنات" القائمة". وبدلا من أن تنصاع إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، تجاهلت جميع هذه القرارات وضربت بها عرض الحائط واستمرت في سياسة وخطط التهويد، فصادرت آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية بدءاً من اليوم الأول الذي تلا احتلال المدينة مباشرة في عام 1967.
تمثلت "الاستراتيجية الإسرائيلية" بخصوص القدس بدعم حكومي لا محدود. والفكرة الأساسية في الخطة الإسرائيلية هي عزل القدس الكبرى عن الضفة الغربية تمهيداً لضمها لإسرائيل نهائياً. ولقد اشتملت تلك "الاستراتيجية" على "استيطان" استعماري في البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها وإنشاء أحياء يهودية وشبكة طرق لربط القدس الشرقية بالمناطق اليهودية الآهلة بالسكان. ولقد تابعت إسرائيل تنفيذ استراتيجيتها رغم أن جميع ممارساتها التوسعية تعتبر مخالفة للقانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة، وتمت إدانتها بقرار مجلس الأمن رقم (478) لعام 1980 الذي أعلن أن جميع الإجراءات القانونية والإدارية التي اتخذتها إسرائيل والتي سعت من خلالها لتغيير طابع وواقع المدينة المقدسة وخاصة