غدت التربية والتعليم همّاً رئيسياً من جملة هموم قياداتنا الرشيدة والذي لم يفارق أحاديثهم المتداولة منذ التشكيلة الجديدة للحكومة، فالرؤية واضحة لدى القادة أما منفذو السياسات فإن الضبابية غلبت على تصوراتهم التي طغت الجزئيات على حساب الاستراتيجيات المرتبطة بالخطط المستقبلية. إلى أين تتجه بوصلة التربية والتعليم في عهدها الجديد؟ فالوزارة لم تضع إلى الآن وتوضح للمجتمع التربوي والمحلي أولوياتها.
أين الأهم في هذه المرحلة، المعلم أم الطالب، المناهج أم الأبنية المدرسية، طول الدوام المدرسي أم أنظمة الامتحانات، مركزية صرف الرواتب من عدمها، الباصات غير المكيفة أم المدارس الناقصة التكييف أم التعيينات الجديدة... إلخ، هذه بعض الجزئيات التي تتكرر مع أي وزير يتولى التربية والتعليم بهمومها ولن تتغير الأوضاع إلا بعد ترتيب الأولويات قبل علاج الجزئيات، لأن الأمر سيطول بها دهراً آخر.
هنالك قضايا كبرى تؤثر على مستقبل الموارد البشرية الوطنية ونعني بذلك مخرجات التعليم العام التي تشتكي منها الجامعات الوطنية التي تطالب بإعادة تأهيل الطلبة علمياً حتى يتمكنوا من مواصلة التعليم العالي فهذه إشكالية تعاني منها أنظمة القبول في استمرارية المسار التعليمي للفرد المواطن الذي يتجه إلى سوق العمل العصي على تعيين خريجي التعليم العالي بالدولة.
إن نظام التعليم العام بالدولة يخلق الطالب المقولب، إما أن يكون علمياً أم أدبياً، واليوم هناك ذوبان واضح، فالطالب يتخرج وهو لا يعلم لماذا يدرس مثلاً مادة الجغرافيا إذا ما كان سيودعها قريباً ليتخصص في مسار المحاسبة عندما يشغل وظيفة المستقبل.
إن النظام التربوي والتعليمي بحاجة إلى فتح مسارات تعليمية متنوعة ومبتكرة عبر تكريس المهنية، فتجربة التعليم الفني والتجاري لابد أن يعاد فتحها وتجديدها بمسارات تتناسب مع احتياجات سوق العمل الذي بحاجة إلى تخصصات فرعية قبل إتمام الطالب مرحلة التعليم العالي.
فربط التعليم العام بمتطلبات سوق العمل غدا أكثر من ضرورة في المرحلة التي يمر بها المجتمع الذي لم يعد باستطاعته فيها توفير فرص عمل مناسبة لآلاف الباحثين عن عمل من المواطنين، لأن الطالب تشكلت شخصيته في قالب واحد لا يستطيع الخروج منه أو كسره حتى لو أنهى مرحلة التعليم العالي.
أصبحت الحاجة ملحة لأسلوب تنويع التعليم الثانوي وهو ما كان مطروحاً كأحد مشاريع التربية القديمة بحيث يتم تحديد مسار التعليم العام للطالب منذ سن مبكرة فلا يكون بحاجة إلى تمديد الدوام الرسمي حتى ينتهي من مقررات المنهج الذي يمكن إلغاء بعضه واختصار الآخر بكل سهولة دون أن يتأثر النظام العام بأي ضرر، فطول الدوام أو قصره ليس المشكلة لأن المعضلة هي في المحتوى المتضخم.
التعليم العام في المجتمعات الغربية المتطورة يغرس في الطالب روح الإبداع والمبادرة والاختراع والاستقلالية في بناء الشخصية التربوية، ففي بريطانيا يدرس الطالب في المرحلة الابتدائية مناهج حول كيفية التفكير وفي أميركا يدرس الطالب مناهج عن المستثمر الصغير، وفي اليابان يرفض المدرس ترك وظيفته لأن الكادر الخاص به يصعد براتبه إلى راتب وكيل وزارة، أما الكادر لدينا فإنه منشار (طالع واكل نازل واكل).
وفي أميركا هناك نمو سريع لمسار تعليمي يسمى بحركة التعليم المنزلي يصل عددهم إلى 2,1 مليون طالب وطالبة. أدى ذلك إلى ظهور سوق حجمه حوالى 750 مليون دولار يمد الآباء بوسائل تعليمية وبرامج تدريس تناسب كل دين وفلسفة سياسية. ولا نريد الاستطراد ولكن ننهي بسؤال أكبر مما بدأناه: هل نظام التعليم العام بالدولة قادر على تحويل الطالب إلى مطلوب؟!