واصل الدكتور حسن الترابي زعيم حزب "المؤتمر الشعبي" المعارض في السودان إطلاق آراء فقهية مثيرة للجدل، فقد أعلن صراحة قبل أيّام اجتهاده بأنّه لا يوجد حكم شرعي يمنع المرأة المسلمة من الزواج من كتابي مسيحي أو يهودي، وجدد فتواه السابقة بحق المرأة في إمامة الرجال. وبرأيه لا يوجد نص شرعي آية أو حديثاً يحرم زواج المسلمة من كتابي، وبرأيه فإن الحرمة كانت مرتبطة بالحرب والقتال بين المسلمين وغيرهم. وبالنسبة للإمامة يستشهد الترابي بالرسول صلى الله عليه وسلم عندما سمح لإحدى الصحابيات العالمات والمتبحرات في الدين بأن تؤم أهل بيتها في الصلاة بما في ذلك الرجال سواء كان زوجها أو ابنها. وهذه الفتوى تأتي بعد فتاوى أخرى مثيرة للجدل من نوع إنكاره عودة المسيح عليه السلام للأرض. بغض النظر عن البعد الديني الاجتهادي في هذه الآراء، وبغض النظر عن أن الترابي سيتهم بأنّه يبحث عن الأضواء مرة أخرى بآرائه هذه، وبأنّه يتحرك من دافع سياسي وربما من أزمة نفسيّة، بغض النظر عن كل هذا فإن تصريحات الترابي وهو كان في يوم من الأيام من الرموز ذات الشعبية الجارفة في أوساط ما كان يعرف في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بشباب الصحوة الإسلامية، وكان السودان بنظامه الإسلامي آنذاك يشكل أملاً ونموذجاً للحركات الإسلامية. بغض النظر عن كل ذلك، تسهم تصريحات الترابي في عمليّة جارية لأكثر من سبب تسهم في تغيير شكل وجوهر الحركات الإسلامية عموماً. فأول ما تعنيه "مراجعات" الترابي أنّ ما يقوله أو ما كان يقوله رموز الحركة الإسلامية لا يتمتع بالقدسية وهو قابل للخطأ والصواب، مما يعني زيادة القناعة بالتمايز بين ما يقوله الإسلاميون وما ينص عليه الإسلام. وهذا الفصل بين "رجال الدين" وبين الإسلام أمر مهم في دفع الحركة الإسلامية نحو الإيمان الفعلي بالتعددية الفكرية. وثاني ما تعنيه مراجعات الترابي، أن السودان الذي كان نموذجاً للنظام الإسلامي في وقت من الأوقات تحول إلى نموذج للفصل بين "رجل الدين" و"الدولة"، وهو ما يمكن رؤيته كمظهر من مظاهر علمانية إسلامية، وتأكيد أن العلمانية يمكن أن تكون بين "رجل الدين" والدولة، وليس بالضرورة الدين والحياة، أو الدين والدولة. وثالث ما تعنيه آراء الترابي، أن المراجعات للآراء الفقهية والتعميمات التي تبنتها الحركات السياسية الإسلامية وفرضتها على مدى عقود، يمكن مراجعتها، وبالتالي لابد من تراجع النهج التكفيري، في التفكير، الذي كان يرفض أية مناقشة في الكثير من التعميمات حول قضايا اجتهادية من مثل الزي الإسلامي ودور وحقوق المرأة، والموقف من الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية، والعلاقات مع غير المسلمين، والعملية السياسية في الموضوع الفلسطيني، وغير ذلك. وآراء الترابي لا يمكن فصلها عن ظواهر متعددة مثل الدعوة لتقنين الفقه في السعودية وجعل الأحكام الجزائية في نصوص لا تتركها خاضعة كليّاً لاجتهاد القضاة، ومنها ظاهرة ما يسمى بالدعاة الجدد حيث أشخاص من تخصصات علمية مختلفة، ودون أن يلتزموا بالزي والمظهر التقليدي لعالم الدين يصبحون ذوي دور وأثر كبير في الشارع الإسلامي. كل هذه المظاهر علامات تحول في الشارع الإسلامي وجعله أوسع وأكثر انفتاحا من حصره في أفكار بعض المجتهدين والسياسيين الذين عايشوا مرحلة معينة في النصف الأول من القرن العشرين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يعد سيد قطب يحتل المكانة الفكرية والعاطفية بين الشباب الإسلامي الحالي، كما كان قبل عقدين من الزمن. ولعل الحركات الإرهابية من الجزائر حتى العراق مروراً بمصر والسعودية وغيرها التي تبنت الإسلام شعاراً لها أسهمت في حفز كثيرين لرفض الانقياد الأعمى لكل من يدّعي المرجعية الدينية ويحاول تنصيب نفسه مرجعاً، مما يعني نوعاً من الإصلاح الفكري داخل التيار الإسلامي، الذي يؤكد على حق الفرد في التفكير والاجتهاد.