خلال فبراير الماضي أعلن البنك الدولي أن أميركا اللاتينية، إذا ما أرادت أن تقضي على الفقر، فإنها ستكون بحاجة إلى تعزيز نموها. وعلى الرغم من أن هذا الاستنتاج لا يضيف شيئاً لما هو معروف من قبل، فإن اعتراف البنك الدولي به يمثل خطوة كبيرة باعتباره أكبر منظمة دولية للإقراض.
ومنذ تدشينه تحدث البنك الدولي كثيراً عن تقليص الفقر، ولكنه كان يركز لما يزيد على 15 عاماً على سياسات الإصلاح الاقتصادي، من خلال تقديم القروض إلى الدول التي، كانت تقدم وعوداً برفع الحواجز التجارية، وتخفيف القيود التنظيمية المعوقة، وخصخصة الصناعة، واتباع خطط تقشفية لإيقاف "التمويل بالعجز"، وتخفيض التضخم. وهذه الإصلاحات التي كانت تتم وفقاً لمبادئ "إجماع واشنطن"، كان من المفترض أن تنجح في إطلاق الطاقات الاقتصادية للدول النامية، وتدفع النمو بها قدماً، كما كان من المفروض أن يقوم النمو في المقابل بخلق الفرص للمعوزين، وانتشالهم من هاوية الفقر.
والكثير من دول أميركا اللاتينية حصلت على القروض من البنك الدولي، وقامت بإجراء الإصلاحات المطلوبة، ولكنها لم تحقق النتائج المأمولة. فالذي حدث أن أداء أميركا اللاتينية كان مخيباً للآمال، وعلى الأخص عند مقارنته بالنمو الاقتصادي الديناميكي، والنجاح في تقليص الفقر في الدول الآسيوية.
يشار في هذا السياق إلى أن أميركا اللاتينية يوجد فيها في الوقت الراهن أكبر معدل لعدم المساواة في العالم، حيث يعيش ربع سكان القارة على ما يقل عن دولارين في اليوم، حسب مصادر البنك الدولي.
وكاتبو تقرير البنك الدولي المعنون: "النمو وتقليص الفقر: الدائرة الحميدة والدائرة الخبيثة" يقر بأن الدولة لا تستطيع أن تحقق النمو، وتخرج من دائرة الفقر، وأن الفقر يمكن أن يمثل عامل استنزاف ضخماً على الاقتصادات وعاملاً معوقاً للنمو، كما أن المناطق الفقيرة التي تفتقر إلى البنية الأساسية عادة ما تفشل كذلك في اجتذاب الاستثمارات. علاوة على ذلك، فإن الأسر الفقيرة التي تجد نفسها محاصرة بين التعليم المنخفض المستوى، وتكاليف المعيشة العالية ليس من المرجح أن تستثمر في تعليم أبنائها. وكما أثبتت تجربة السنوات السابقة، فإن الدول التي لم تنجح في تقليص حدة التفاوت في الدخول بين أبنائها، تواجه توترات اجتماعية تعرض النشاط التجاري والأعمال بها للخطر. وحسب ما جاء في التقرير المذكور آنفاً فإنه عندما يزداد معدل الفقر بنسبة 10 في المئة فإن النمو ينخفض بنسبة 1 في المئة، وتنخفض الاستثمارات بنسبة 8 في المئة من إجمالي الناتج القومي للدولة.
وهناك استنتاجان رئيسيان في هذا التقرير يمثلان انقلاباً بالنسبة للبنك: الأول أن نمو القطاع الخاص لا يمثل ترياقاً شافياً للفقراء، والثاني أن علاج عدم العدالة والمساواة في الدخول والفرص بين السكان، يجب أن يكون هدفاً مباشراً للإصلاح. وهناك استنتاج ثالث وإن كان يعتبر من قبيل الهرطقة في نظر مسؤولي البنك وهو: أن الدولة يجب أن تتبني المزيد من المسؤوليات، لا أن تقلل منها. ومما جاء في التقرير تأييداً لهذا الاستنتاج: "إن تحويل الدولة إلى وكيل، يدعو إلى عدالة الفرص، وممارسة عمليات إعادة توزيع كفؤة للثورة، هو ربما التحدي الأكثر أهمية الذي يواجه أميركا اللاتينية فيما يتعلق بتنفيذ سياسات أفضل تقوم في الوقت ذاته بتحفيز النمو، وتقليص درجة عدم العدالة والفقر".
وعن طريق قيامه بالدفاع عن تحمل الدولة لمسؤوليتها، وخصوصاً فيما يتعلق بتوزيع الثروة، فإن البنك الدولي على ما يبدو يضع نفسه في موضع أقرب للصف الذي تقف فيه المؤسسات المتعددة الأطراف والحكومات في مناطق العالم المختلفة. وفي هذا السياق قال "خوزيه أنطونيو أوكامبو" وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية في مقابلة أجراها عقب مناسبة رعتها الأمم المتحدة في أميركا اللاتينية هذا الشهر: "اليوم نجد أن أغلبية الزعماء في أميركا اللاتينية يقرون بأن الدولة قد أصبحت مسؤولة عن القيام بمهام أكثر أهمية مما كانت تقوم به من قبل، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مواجهة عدم العدالة والمساواة. ويمكننا أن ننظر إلى الاندفاعة الكبرى نحو "اليسار" في الانتخابات الأخيرة التي أجريت في أميركا اللاتينية في هذا الضوء. وحتى في تشيلي التي حققت أكبر نجاح اقتصادي في المنطقة، فإننا نجد أن الرئيسة الجديدة المنتمية إلى تيار "يسار الوسط " وهي "ميشال باشلييه" قد أكدت على الحاجة لوضع نهاية للمقايضة بين النمو وعدم العدالة، أي اختيار واحد منهما فقط دون الآخر.
ويشير كاتبو تقرير البنك الدولي إلى أن "هناك برامج تدخل محددة مطبقة بالفعل في البرازيل وكولومبيا والمكسيك، وهي برامج تعمل في صالح الفقراء وصالح النمو في ذات الوقت". وتقوم هذه البرامج بتقديم الأموال للعائلات الفقيرة بشرط أن يبقى أطفالها في المدارس، وأن تتخذ خطوات رئيسية لتحسين صحتهم. وبدلاً من زيادة الأعباء الملقاة على عاتقها، وإنجاب المزيد من الأطفال كما يخشى بعض المنتقدين، فإن تلك