هل سمعت كل ما تحتاج معرفته عن دارفور؟ يستدعي تعقيد الموضوع وتشابك خيوطه التريث قبل الإجابة. فقبل ثلاث سنوات عندما شرعت الميليشيا، التي يُقال إنها، مدعومة من قبل الخرطوم في محاربة المتمردين في إقليم دارفور الواقع غرب السودان، انهارت كافة التصورات التقليدية حول ما يمكن أن يشكل بواعث قوية لتأجيج النزاع والمرتبطة بالعوامل الدينية والعرقية والاقتصادية بسبب عجزها عن تفسير الأحداث والربط بينها وبين الواقع. لذا أطرح بعض الحقائق في محاولة لفهم صراع خلَّف عشرات الآلاف من القتلى و2.5 مليون نازح دون أن يلوح له حل في الأفق. ففي بداية النزاع، وبينما كنت أجوب الصحاري الشاسعة التي يسيطر عليها المتمردون في دارفور وسط الأكواخ المدمرة والأغنام النافقة توقفت بسيارتي قرب مسجد مهجور طلي بالأبيض والأخضر واخترقت واجهته الأعيرة النارية كما هشمت نوافذه الزجاجية. وقد لاحظت، طيلة ترحالي في المنطقة المنكوبة، أن المساجد كانت مدمرة، حيث عرفت لاحقاً من بعض الرجال الذين بقوا في القرى المهجورة أن ذلك حصل بسبب القنابل التي كانت تطلقها الطائرات الحربية الحكومية، وبسبب الهجمات التي يشنها أفراد ميلشيا الجنجويد. واللافت في الأمر حسب الأهالي أن منفذي الهجمات كانوا مسلمين أيضاً، إلا أنهم لم يتورعوا عن المس بمساجد دارفور التي تعد موطناً لأكثر المسلمين ورعاً في السودان.
ورغم الحمولات الدينية القوية التي طبعت الحرب الطويلة بين الشمال السوداني والجنوب من خلال المواجهة المسلحة بين الحكومة التي يسيطر عليها العرب والمسلمون وبين متمردي الجنوب المسيحيين والوثنيين حول السلطة السياسية والنفط والدين، إلا أن الأمر حسب "ماثينا ميدين"، الممرضة الماليزية التي تعمل في دارفور، "مختلف تماماً"، مضيفة: "انطلاقا من كوني مسلمة حاولت أن ألاقي بين الطرفين تحت راية الإسلام، لكنني سرعان ما أدركت أن هذه الحرب لا علاقة لها بالدين". والحقيقة الثانية أنه رغم محاولات تصوير النزاع كمعركة بين العرب والأفارقة السود، إلا أن كل من يزور دارفور يكتشف أن جميع الأهالي من ذوي البشرة السوداء. ويبدو أن الفوارق الوحيدة هي تلك المتعلقة بالإثنية الموزعة بين الرعاة والمزارعين. فكل قبيلة تصف نفسها بأنها عربية أو إفريقية استناداً إلى اللغة التي يتحدث بها أفرادها، وما إذا كانوا يزرعون الأرض أو يرعون الماشية، فضلاً عن أن القبيلة كلما اغتنت واكتسبت ثروة إضافية كلما وصفت نفسها بالعربية. ويرجع هذا الاختيار الإرادي للأصول إلى الامتيازات السياسية المرتبطة بالقبائل العربية التي تعود إلى سيطرة العنصر العربي على الحكومات المتعاقبة منذ ما يزيد على قرن من الزمن، وهو ما حدا ببعض القبائل الأخرى إلى تبني الأصل العربي بصرف النظر عن إثنيتها الحقيقية.
ولم تساعد كثيراً محاولات المراقبين السياسيين خلع البعد الديني على أزمة دارفور في إخفاء الصراع السياسي الدائر بين الرئيس عمر البشير من جهة ورجل الدين المتشدد حسن الترابي من جهة أخرى، خصوصاً أن هذا الصراع بين الرجلين يبدو أكثر مقدرة على تفسير النزاع في دارفور وكشف دوافعه الحقيقية. فالترابي الذي يعد شخصية كاريزمية وأستاذا جامعياً مفوهاً كان من أهم الخصوم السياسيين للرئيس عمر البشير لما يتمتع به من نفوذ واسع على الساحة السياسية السودانية. لكنّ ما يهمنا من الترابي هو الاتهام الذي وجهه إليه خبراء في حقوق الإنسان تابعون للأمم المتحدة من أنه يساند إحدى جماعات التمرد الأساسية في دارفور المعروفة بـ"حركة العدالة والمساواة"، حيث يتزعمها بعض من طلبته القدامى. وبسبب صداماته المتكررة مع الرئيس البشير غالباً فما كان يوضع الترابي تحت الإقامة الجبرية ويظل في منزله الفسيح بالخرطوم يستقبل أتباعه دون أن يمنعه ذلك من الإشراف ولم من بعيد على جماعات المتمردين الذين يسعون إلى الإطاحة بالحكومة. غازي سليمان، المحامي السوداني المتخصص في حقوق الإنسان يؤكد دور العوامل السياسية في الصراع بقوله: "ليست دارفور سوى ساحة للصراع السياسي حول الخرطوم، وهذا ما يفسر الرد القاسي للحكومة في دارفور، لأنها تريد إبقاء سيطرتها على دارفور بشتى الوسائل".
وإلى جانب البواعث السياسية الداخلية تبرز أيضاً العلاقات السياسية الدولية، لاسيما عبر تدخل كل من الصين وتشاد في حالة دارفور. فقد جاء الرئيس الحالي لتشاد إدريس ديبي إلى السلطة سنة 1990 عن طريق حملة عسكرية شنها من إقليم دارفور وتمكن بواسطتها من الإطاحة بالرئيس السابق حسين حبري. كما أن الرئيس ديبي ينتمي إلى قبيلة الزغاوة التي تعتبر أحد الأطراف الأساسية المشاركة في التمرد بدارفور، لذا لم يتردد عندما اندلعت حرب دارفور في الانحياز إلى قبيلته مقابل الحكومة السودانية. وليس غريباً في هذه الحالة أن يتخذ متمردو دارفور من تشاد قاعدتهم الخلفية، وأن تدعم حكومة الخرطوم المتمردين المناوئين لحكم الرئيس ديبي الذين شنوا مؤخراً هجوماً عسكرياً على الحكومة وكانوا على وشك الدخول إلى العاصمة نجامينا.