بعد مرور ثمانية أشهر على إعصار "كاترينا" لازالت مدينة "نيوأورليانز" مدمرة. وعندما قمت بزيارة سريعة إلى المدينة مؤخراً، فإنني عدت مصدوماً بما شاهدته. والواقع أن إصرار قيادات الولاية على إقامة مهرجان" ماردي جراس" الذي اشتهرت به المدينة، ليس إلا محاولة لإبداء قدر من الشجاعة والتفاؤل. وهذه المحاولات المبالغ فيها، وتوقف وسائل الإعلام تقريباً عن الحديث عن "كاترينا" بعد أن تعبت من كثرة الكتابة عنه، جعلا الكثيرين منا يعتقدون أن "نيوأورليانز" تحقق تقدماً حقيقياً.
حسب الظاهر قد يبدو الأمر كذلك: فالوسط التجاري للمدينة يعمل، والفنادق مفتوحة، والحي الفرنسي الشهير في المدينة الذي لم يتعرض للفيضان يمارس حياته كالمعتاد. ولكن ذلك في الحقيقة يخفي مأساة المدينة التي يمكن للمرء أن يزورها دون أن يدركها، تماماً كما كان يحدث بالنسبة للسياح الذين كانوا يأتون إليها قبل أن تتعرض للإعصار.
لا يعني هذا أن إعصار "كاترينا" لم يترك بصماته على مركز المدينة، فالواقع أنه قد ترك بصمات واضحة. فهناك ألواح خشبية على النوافذ وعلى الأسقف التي تم إصلاحها حديثاً، كما أن بعض المباني لا تزال مُغلقة، وبعض محلات السوبرماركت مازلت تستخدم إما كمستشفيات أو ملاجئ مؤقتة. وعندما تمر باستاد المدينة الخالي، فإنك لا تستطيع إلا أن تستعيد منظر الآلاف الذين تجمعوا فيه عقب الطوفان.
يمكنك أن تعرف القصة الحقيقية لـ"نيوأورليانز"، إذا ما قدت سيارتك لمدة 10 دقائق بعيداً عن مركز المدينة. حينها ستدخل إلى الأحياء الخالية التي تحمل جدران بيوتها الأمامية علامات مشؤومة تشير إلى أن تلك البيوت قد تم التدقيق عليها، كما تشير إلى عدد الأموات الذين عثر عليهم بداخلها، ودرجة التلوث التي لحقت بها جراء النفايات السامة. وفي هذه الأحياء لا زالت الأنقاض، وأكوام القمامة، وبقايا السيارات الصدئة، والأشجار الساقطة على الأسقف المحطمة للبيوت، في مكانها. كما لا تزال الآثار الدالة على مدى ارتفاع مياه الإعصار واضحة على واجهات تلك البيوت. وفي بعض الأحياء الأخرى لا توجد مثل تلك العلامات لسبب بسيط وهو أن المياه قد غمرت كل شيء.
بشكل عام، وحسب الإحصائيات فإن ما يعادل ثلثي سكان "نيوأورليانز" لا يزالون يعيشون خارجها، بسبب عدم قدرتهم على العودة.
والمشكلة هنا لا تكمن في البيوت المدمرة، ولا المياه المتجمعة السامة، وعدم وجود تيار كهربائي، أو ماء صالح للشرب من الصنابير، وإنما تكمن في أن العديد من الأعمال لم تتمكن من العودة إلى العمل مجدداً، وبالتالي فليس هناك طعام أو دواء أو خدمات تزويد بالوقود متوافرة في المدينة، كما أن نظام المدارس العامة والبريد لا يزالان معطلين وكذلك نظام السجون والمحاكم والنظام القضائي بأكمله.
ومما يزيد من غضب الشعب الأميركي من هذه الصورة المروعة، عدم وفاء الإدارة بالوعود التي قطعها بوش على نفسه منذ سبعة شهور، عندما غمر الإعصار "كاترينا" المدينة. إنني شخصياً لا أستطيع أن أنسى ذلك الخطاب القوي الذي ألقاه بوش على الأمة، وهو يقف أمام كاتدرائية "سانت لويس" في "نيوأورليانز"، والذي اعترف فيه بأن الحكومة كانت بطيئة في الاستجابة للإعصار، ووعد بالقيام بمجهود ضخم لإعادة البناء بغرض إعادة "نيوأورليانز" للحياة، واعترف أيضاً بأن الأميركيين من أصل أفريقي كانوا هم الأكثر معاناة نظراً لفقرهم الذي يرجع إلى تاريخ التفرقة العنصرية في المدينة، وأن البرامج التي ينوي تنفيذها، ستركز ليس فقط على إعادة بناء المدينة، ولكن على تحسين أوضاع فقرائها كذلك.
بعد مرور ثمانية شهور، فإن ما يبدو هو أن تلك الوعود قد نُسيت، مثلها في ذلك تماماً مثل أكوام القمامة المتجمعة أمام البيوت المدمرة، ليبقى الإعصار كاترينا وصمة عار على جبين أمتنا.. ليس فقط لأنه كشف عن عمق الانقسام العنصري والطبقي في مجتمعنا، ولكن أيضا بسبب الوعود الجوفاء التي أطلقتها الإدارة لعلاج آثاره، وتصحيح ما كشف عنه من أخطاء ومظالم.