خلال الأشهر الثلاثة الماضية تواردت الأخبار حول زيارات عديدة لزعماء وقادة بعض دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية إلى دول مهمة في القارة الآسيوية، وتراوحت تعليقات الخبراء والمحللين والمراقبين على هذه الزيارات بين من اعتبرها توجهاً استراتيجياً جديداً، وأنها تحرك ضروري كان يجب الانتباه إليه والتركيز عليه منذ فترة طويلة لأنه مرتبط بمصالح حيوية وعلاقات تاريخية ممتدة عبر العصور، وبين من اعتبرها زيارات عادية وطبيعية تحدث كل فترة زمنية تهدف إلى تأكيد وجود علاقات خليجية مع بعض دول آسيا. فما الدوافع الحقيقية لمثل هذه الزيارات التي جرى تكثيفها في الفترة الماضية، وكأن دول مجلس التعاون الخليجي قد تذكرت فجأة أنها تتبع جيوستراتيجياً لقارة تدعى آسيا؟
لقد ظهر هذا التوجه "شرقاً" في سياسات العديد من الدول العربية منذ فترة الحرب الباردة تجاه القطب الآخر، لكنه تحول كلياً منذ أوائل التسعينيات عقب تفتت الاتحاد السوفييتي وانهيار الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا، وبروز دول شرق آسيا اقتصادياً، ثم ظهور قوى نامية آسيوية نووية، وانتباه النظام العالمي الجديد إلى وجود إشارات ودلائل في أن تصبح واحدة أو أكثر من دول آسيا قوة إقليمية عظمى، وربما تتحول إلى قطب دولي إقليمي، لذا وفي ظل نمو التكتلات بين دول آسيا وصعود قوتها على المستويين الإقليمي والعالمي كان من الواجب أن تنتبه لهذا الأمر دول العالم عامة ودول الخليج على وجه الخصوص بحكم الانتماء القاري والقرب الجغرافي.
ومن ثم نجد أن التوجه الخليجي شرقاً أمر تفرضه دوافع مهمة ومتنوعة، تضم مصالح عدة بعضها استراتيجي وبعضها الآخر اقتصادي، ومن أهم هذه الدوافع:
* تنويع مصادر العلاقات "السياسية" بعد ما أدى الارتكان السياسي الكامل على الغرب؛ وخاصة الولايات المتحدة، إلى استمرار سياسة الكيل بمكيالين، وتركيز واشنطن على مصالحها الحيوية فقط دونما أي اعتبار لمصالح الدول الأخرى.
* تنويع العلاقات "الاستراتيجية" حيث التوجه الخليجي شرقاً يتيح فهماً أوضح وأدق لدول آسيا للقضايا العربية والخليجية، الأمر الذي قد يسمح لها بالمساهمة الجادة في حل هذه القضايا بصورة عادلة تضمن حماية المصالح العربية والخليجية.
* محاولة الخروج من نفق الاتهام بالإرهاب وإثبات "طبيعة" دول الخليج، فمنذ وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 تم وضع فأس الإرهاب في عنق الدول العربية خاصة الخليجية منها، وأصبحت النظرة أن هذه الدول مشاتل لإنتاج الإرهابيين والمتطرفين.
* الاستفادة من التوهج الاقتصادي للنمور الآسيوية، وخبراتهم وتجاربهم الواقعية في التنمية الشاملة، بعد أن ارتكز التعامل الاقتصادي الخليجي على مدار نصف القرن العشرين على الغرب، وهو أمر لم يحقق الحصول على التكنولوجيا المتطورة وظهرت قيود عدة على التبادل التجاري ويجري التركيز على منتج وحيد هو "النفط" فقط.
* تصحيح مسار التعاون الاقتصادي الشامل بدلاً من التركيز على تصدير سلعة استراتيجية واحدة فقط، من خلال التوسع في جعل أسواق آسيا مجالاً مهماً لتصدير المنتجات الخليجية، حيث تشكل السوق الآسيوية مستقبلاً متنفساً مهماً للمنتجات البتروكيماوية وغيرها.
* عدم خضوع التعامل الخليجي مع آسيا للعوامل الأيديولوجية أو للأهواء والمصالح والضغوط التي اشتهر بها الغرب في سياساته واستراتيجياته الخارجية.
* ضمان حل مشكلات العمالة الأجنبية حيث يوجد في دول مجلس التعاون الخليجي أكثر من 16 مليون عامل وعاملة من دول وسط وجنوب آسيا، بما يوفر أفضل الظروف لمنع انتقال الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية الداخلية والمشكلات البينية في الدول الأصلية للعمالة إلى دول مجلس التعاون الخليجي من جانب، ويسمح بحل أية مشكلات خاصة بأوضاع هذه العمالة من جانب آخر.
* بناء علاقات استراتيجية تسمح لدول الخليج بالوساطة والتدخل عند الأزمات بين دول آسيا لمنع تفاقمها.
* تأكيد الانتماء الخليجي لآسيا، والتعاون والتنسيق لمواجهة التهديدات والتحديات والمخاطر المشتركة.
* تزايد احتياجات آسيا المطرد والمتضاعف للطاقة، حيث تمثل شريان الحياة للاقتصاديات الآسيوية المتطورة.
* الاستفادة من خبرات دول آسيا المتقدمة في التعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا، فقد تحولت كل من الصين والهند إلى أكبر دولتين متخصصتين في التكنولوجيا رفيعة المستوى التي ستقود الثورة التكنولوجية القادمة.
* الاستثمار وإقامة المشروعات المشتركة على نطاق كبير ومتنوع، نظراً إلى وجود فرص واعدة جديدة للاستثمار، فضلاً عن انتشار الشركات الآسيوية العالمية، وتحولها إلى منارة لنشر التكنولوجيا في العالم، وإلى المحرك الأساسي للدفع بعجلة النماء الاقتصادي في الدول غير الصناعية.
تبرز أهمية التوجه شرقاً في أنه يأتي في ظل الصعود القوي لاقتصاديات دول جنوب شرق آسيا، خاصة الصين والهند وماليزيا، هذه المجاميع الهائلة من البشر التي قررت أن تخرج من سجن الفقر إلى حرية الثروة ومن عجز الموارد إلى قدرة تنويع الإ