إذا ما تجاوزنا ملكية ماليزيا اللاوراثية الفريدة والتي ينتقل فيها العرش مداورة بين سلاطين الولايات المكونة للاتحاد الماليزي، وإذا ما استبعدنا ملكية بوتان ذات الخصائص المستمدة من ظروف البلاد المعزولة ومجتمعها الرعوي، وملكيتي اليابان وكمبوديا اللتين تقلصت فيهما صلاحيات صاحب العرش إلى أقصى الحدود، لم يتبق في آسيا سوى ملكيتين يمكن القول إن لهما تأثيرا على الحراك السياسي في بلديهما، هما الملكيتان التايلاندية والنيبالية.
على أنه بالمقارنة، نجد أن الأولى تحظى باحترام قوي في أوساط الشعب ورموزه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يصل إلى مرتبة القداسة، وبما مكنها على الدوام من ممارسة دورها كضامن للوحدة الوطنية ومرجعية حاسمة في أوقات المحن والعواصف السياسية. وليس أدل على هذا من القسم السابع في دستور البلاد لعام 1997 والذي يمنح الملك سلطة التدخل بالنصيحة عندما تصل الأمور الخلافية بين الساسة إلى منعطف يهدد المصلحة الوطنية. وفي المرات القليلة التي اضطر الملك كارها إلى استخدام صلاحياته الدستورية هذه لحسم الأمور ومنع انزلاق البلاد إلى الفوضى، دلت التجربة أن إشارة صريحة أو مبطنة منه كانت كافية لإعادة الأمور إلى نصابها، الأمر الذي يدل على مدى ما تتمتع به الملكية في تايلاند من شعبية واحترام ودور أبوي كاسح، إلى الدرجة التي يندر معها وجود مطالبين برحيلها أو منتقدين لها.
أما الملكية النيبالية فتبدو على النقيض من ذلك، بل وصل الأمر مؤخرا إلى حد انضمام طائفة كبيرة من القوى السياسية في البلاد إلى الثوار الماويين لجهة المطالبة بإلغاء النظام الملكي نهائيا واستبداله بجمهورية ديمقراطية. وبطبيعة الحال ما كانت الأمور لتصل إلى هذا المستوى لولا نزعة الملك الحالي جيانيندرا للعب دور مركزي ومهيمن في إدارة البلاد والتأثير في شؤونها السياسية وعلاقاته الخارجية، مع لجم تطلعات مواطنيه في المزيد من الديمقراطية والحريات عن طريق استخدام القوة المفرطة ضدهم. حيث شهدت البلاد في الأسابيع الأخيرة تظاهرات وحملات سلمية ضخمة لأنصار الديمقراطية، ردت عليها السلطات بالرصاص الحي وقنابل الغاز المسيلة للدموع والاعتقالات العشوائية وإجراءات أخرى نادرا ما اتخذت في تلك البلاد مثل منع التجول، وذلك بعد مضي أكثر من عام على قرار جيانيندرا جمع كل السلطات في يده خلافا لمواد الدستور، وتضييق الحريات الإعلامية وحل البرلمان وإقالة حكومته المنتخبة بحجة فشل الأخيرة في القضاء على التمرد الشيوعي الذي بدأ منذ عام 1996 وتسبب حتى الآن في مقتل ما لا يقل عن 13 ألف مواطن.
صحيح أن الرغبة في لعب دور محوري في شؤون البلاد من قبل الجالس على العرش ظلت تطل برأسها بشكل أو بآخر في مختلف العهود السابقة منذ أن وحد الملك بريثفي نارايان شاه البلاد في القرن الثامن عشر وأسس للنظام الملكي الحالي، إلا أن الصحيح أيضا أن هذا المنحى لم يبرز في العصر الحديث مثلما برز بعد تولي جيانيندرا العرش في عام 2001 خلفا لأخيه الملك بيريندرا الذي قضى نحبه مع ولي عهده وكافة أفراد أسرته في مجزرة قصر "نارايانهيتي" الشهيرة في يونيو من العام نفسه. فمنذ ذلك الوقت دخلت الملكية النيبالية ما يمكن وصفه بحقبة التراجعات لجهة شعبيتها، هي التي ظلت محبوبة بشكل عام وتم النظر إليها كعامل استقرار وتوحد على مدى ستة عقود، ولاسيما في حقبة الملك ماهندرا (1955– 1972) الذي شهد عهده وضع أول دستور للبلاد في عام 1959 وإجراء أول انتخابات ديمقراطية في عام 1960، وعهد خلفه بيريندرا الذي شهد استفتاء شعبيا في عام 1979 ووضع دستور جديد في عام 1990 وإعادة العمل بنظام التعددية الحزبية استجابة لمطالب الشعب.
ولعل أفضل دليل على صحة هذا القول أن حزب المؤتمر الذي يعتبر من أكبر أحزاب البلاد وأقدمها لجأ إلى حذف المادة التي تعترف بشرعية النظام الملكي من دستوره، ردا على تجاهل الملك لزعماء البلاد السياسيين واستمراره في تضييق مساحة الحريات وترسيخ مظاهر الديكتاتورية خلافا لما وعد به في العام الماضي من إعادة وضع البلاد على سكة الديمقراطية خلال ثلاث سنوات.
وعلى حين تحظى الملكية في تايلاند باحترام ودعم الدول المجاورة والقوى الكبرى، نجد أن الملكية في النيبال في عهد جيانيندرا لم تعد تحظى بالدعم والتأييد من الهند المجاورة ذات الدور التقليدي المؤثر في أوضاع هذه المملكة، بل لم يصدر حتى من الجارة الأخرى الصينية ما يؤكد وقوفها بصلابة خلف النظام الملكي، وإن كانت اليوم منخرطة بشكل متزايد في دعم القوات النيبالية لمواجهة التمرد الشيوعي. ويمكن قول الشيء ذاته حول مواقف القوى العالمية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والمجموعة الأوروبية اللتين لئن ساندتا النظام الملكي بقوة انطلاقا من المخاطر التي يشكلها التمرد الشيوعي الماوي على مصالحهما الإقليمية، فانهما اليوم تقفان موقفا مغايرا وتطالبان الملك جيانيندرا باحترام الإرادة الشعبية ومبادئ حقوق الإنسان تحت طائلة قطع المسا