في هذا الكتاب يثير المؤلف "إي سي جرايلينج" تأملات وتساؤلات فلسفية حول الأبعاد الأخلاقية للحرب.. أي حرب, اعتماداً على تقييمه التاريخي الأخلاقي للقصف الجوي الذي تعرضت له المدن الألمانية واليابانية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن وبإثارة هذه القضايا التي تبدو بعيدة عن ذهن واهتمام القارئ المعاصر, إنما يرمي الكاتب إلى إضاءة الحاضر والمستقبل بضوء التاريخ ودروسه وتجاربه. وهل تفصلنا سوى سنوات معدودات فحسب, عن مآسي القصف الجوي التي تعرض لها كل من الشعبين الأفغاني والعراقي, في إطار الحرب الدولية التي أعلنتها ولا تزال تخوضها أميركا ضد الإرهاب. فهل كان مُصيباً ما صحب هاتين الحربين من وحشية باسم الحرب على الإرهاب؟ وهل كان مُصيباً ما تعرض له المدنيون الألمان واليابانيون من قصف جوي حصد الآلاف, بل الملايين منهم باسم الحرب على النازية والفاشية؟ هذا هو الهدف الرئيسي من تناول الحاضر وقضاياه برؤية وعين تاريخيتين.
ولهذا السبب يثير هذا الكتاب عدداً من التساؤلات والقضايا الخادشة لحساسية الكثيرين, في المؤسسات السياسية والعسكرية على حد سواء, ولذلك فما أسهل إساءة فهم وجهة نظره فيها. ضمن ذلك مثلاً تساؤله عما إذا كانت قوات الحلفاء قد ارتكبت ما اصطلح عليه في القواميس العسكرية والسياسية والقانونية المعاصرة بـ"جرائم الحرب" و"الجرائم ضد الإنسانية" أم لا, خلال حربها ضد النازية والفاشية في كل من ألمانيا واليابان, إبان الحرب العالمية الثانية؟ وترتبط الإشارة هنا مباشرة بالقصف الجوي المكثف الذي استهدف المدن ومناطق تجمع المدنيين آنئذ. وبما أن صيغة السؤال نفسها هي صيغة توكيدية, لا تحتمل إلا الإجابة بـ"نعم", فإن في ذلك ما يثير غضب المؤسستين العسكرية والسياسية بصفة خاصة. فهل يقبل وزير دفاع مثلاً تقديمه أمام محكمة الجزاء الدولية, باتهامات لها صلة بالجرائم التي ارتكبتها القوات المؤتمرة بأوامره في الحرب, سواء كانت تلك الجرائم ناجمة عن عمليات القصف الجوي, التي تبيد الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين, أكثر مما تفعل بمقاتلي العدو؟ وهل يقبل وزير دفاع أيضاً تقديمه يوماً للمحاكمة بسبب استخدام قواته للفسفور الأبيض في أكثر من معركة من المعارك التي تدور في المدن؟ ليس الساسة والعسكريون وحدهم من يرفعون صوتهم على مثل هذه الأحكام الفلسفية الأخلاقية, وإنما يفعل الشيء نفسه بعض المؤرخين, الذين لم ينظروا إلى أحداث الحرب العالمية الثانية, من ذات المنظور الفلسفي الأخلاقي, الذي قرأ من خلاله الكاتب تلك الأحداث. فقد ساد نوع من التواطؤ الموجب مع تلك الفظائع الوحشية التي ارتكبتها القوى المتحضرة والديمقراطية بحق المدنيين, في حربها الضارية ضد هتلر وموسوليني وحلفائهما في ذلك الوقت.
لكن على أية حال, فإن النصيحة القيمة التي يجب تقديمها لأي قارئ تستفزه هذه الأحكام والرؤى الأخلاقية الفلسفية, وتثير ضيقه وتبرمه, هي أن يهدأ قليلاً ويلتقط أنفاسه, فريثما يصل إلى الباب السابع من الكتاب, حيث يفاجأ بتنبؤ الكاتب ومناقشته التفصيلية لكل ما يدور في خلد هذا النوع من القراء, ويطلع على ردوده عليها جميعاً. وليس ذلك فحسب, بل سيصل كل من يقرأ أفكار الكاتب بالحرص والأناة اللذين أولاهما لكل ما طرحه من أفكار وتساؤلات, إلى حقيقة أنه لم يعترض على فكرة القصف بحد ذاتها, وإنما انصب اعتراضه على قصف التجمعات المدنية بصفة خاصة.
وإذا كانت الفكرة هي تبسيط ما طرحه الكاتب وتخطئته, انطلاقاً من القول إن كل ما توصل إليه, هو رمي القادة العسكريين الذين خططوا للحرب العالمية الثانية ولعمليات القصف الجوي المصاحبة لها, بتهمة "مجرمي الحرب", فقد كان المؤلف نفسه هو من أورد قول أبرز قادتها على الإطلاق –سير ونستون تشرشل: "ما أن يبدأ البعض باستخدام مفاهيم من قبيل "جرائم الحرب" حتى يعرض جميع القادة العسكريين إلى خطر الشجب والتقريع.
لكن على أية حال, فإن في تحذير تشرشل هذا, ما يفتح آذان القادة العسكريين اللاحقين, ويدفعهم إلى توخي المزيد من الحيطة والحذر أثناء تخطيطهم للعمليات والحروب, ويغرس فيهم مشاعر الخوف من العواقب القانونية والأخلاقية المترتبة على ارتكاب هذا النوع من الجرائم, فما أفيد التحذير والقول. وفي تفسير الكاتب لتلك المقولة "التشرشلية" ما لا يجب أن يفهم على أنه "ضربة عسكرية استباقية" قصد بها تحذير المؤرخين والفلاسفة من اتهام القادة العسكريين, بقدر ما هي تحذير استباقي للقادة العسكريين أنفسهم, ودعوة لإيقاظ الضمير الإنساني الأخلاقي, حتى في مضمار خوض الحروب وشنها.
والسؤال الأهم والرئيسي المتضمن هنا هو: كيف للأمم المتحضرة أن تشن الحروب, خاصة إن كانت هذه الأخيرة تستهدف في الأساس محاربة الوحشية والبربرية ونشر قيم الحضارة والديمقراطية؟ فهل يبرر الانتصار على هتلر, كل الفظائع التي ارتكبت بحق الألمان؟ وإذا كانت بريطانيا مثلاً, قد حاربت هتلر بسبب الفظائع والمحارق الجماعية التي ارتكبها بحق اليهود –ضمن الأسباب الأخرى لمشاركتها في الحرب- فكيف ل