انتهت الحفلة في فرنسا، لكن بعض الضيوف –ومعظمهم من الشباب- لن يعودوا إلى بيوتهم إذ أن بعض الطلبة والفصائل النقابية ما يزالون يرغبون في الإطاحة بالحكومة، في حين يريد آخرون الإطاحة بالجمهورية الخامسة. إلا أن ثمة فريقاً ثالثاً يرغب في اجتياز الامتحانات التي تنتظره بعد إجازة عيد الفصح، ذلك أن الحكومة تعلم أنه بالرغم من التعاطف الشعبي الذي حظي به الطلبة، إلا أن الناخبين لا يرغبون في تعرض حكومة وبرلمان انتخبا بطريقة شرعية للمهانة. وهكذا بدأت المحادثات بهدف وضع حد لهذه الأزمة.
ولعل أكبر مشكلة تتمثل في أن أي تدابير لم تتخذ حتى الآن في سبيل زيادة فرص العمل بالنسبة للشباب غير المؤهل. وبالتالي يمكن القول إن المظاهرات كانت جعجعة من دون طحين، ذلك أنها عكست الشعور الجماعي بالقلق والاستياء الذي يسود أوساط الشباب. ويبدو أن الفرنسيين، الذين يعتبرون التشاؤم دليلاً على الذكاء، قد أقنعوا أنفسهم بأن البلاد تعاني من أزمة حادة، خلافاً لجيرانها. فمما لاشك فيه أن لدى فرنسا بطالة مستشرية بكثرة في أوساط الشباب، وبنية عمل تفتقر إلى المرونة مقارنة مع جيرانها أيضاً. إلا أن البلاد تتمتع في الآن نفسه بإنتاجية أعلى، وتضخم أقل، ويد عاملة أكثر تأهيلاً وتعليماً، ومعدل ادخار أعلى من معظم الجيران. فألمانيا، على سبيل المثال، حيث يتم تحديد التوجه الأكاديمي في سن مبكرة، تعاني أزمة تعليمية أسوأ بكثير مما تشهده فرنسا. ولعل أبرز تلك المشكلات هو الكم الهائل من شهادات الليسانس الصادرة عن المعاهد والجامعات الألمانية والتي باتت تفقد الكثير من قيمتها.
والواقع أن ثمة مشكلة تعليمية أخرى تعاني منها فرنسا، وتتمثل في الفصل الاجتماعي الناتج عن نظامي التعليم العالي المتوازيين (وهو مجاني في معظمه). ذلك أن المدارس المهنية العليا، التي تتميز بالمؤهلات العالية التي تشترط توفرها في الطلبة من أجل قبولهم، كما تتميز بجودة مناهجها، تقود بشكل آلي إلى المراتب العليا في الزعامة الوطنية. وإلى جانبها يوجد نظام جامعي منفتح في ما يخص قبول الطلبة، إلا أنه فقد الكثير من أهميته بسبب الحاجة في نهاية العام الأول إلى إقصاء المرشحين غير المؤهلين للمواصلة.
يُقال إن نظام الرفاه الاجتماعي الحالي بفرنسا لا يمكن إصلاحه. وأنا أرى أنه ممكن، ولكن لابد من انتهاج الطريقة المثلى، فرئيس الوزراء السابق "جان بيير رافاران" مثلاً نجح في القيام بذلك العام الماضي، حين أدخل تعديلات مهمة على نظام التقاعد الخاص بالموظفين العموميين وفي النظام الصحي. وقد أوضح المسؤول الفرنسي السابق أن الأمر استغرق عاماً كاملاً لمغازلة "الشركاء الاجتماعيين" (النقابات وشركات التأمين والإدارات العمومية)، للدفع بالإصلاحات إلى الأمام إلى أن يصبح بالإمكان تبنيها بهدوء.
أما "دوفيلبان" فيقف على النقيض من ذلك، حيث أعلن عن مقترح العمل الجديد الخاص بالشباب من دون مقدمات ولا إعداد نفسي (عقب مبادرة ناجحة ترفع التكاليف الاجتماعية عن المقاولات الصغرى). كما أنه لم ينجح في كسب ثقة الشركاء الاجتماعيين، وحاول تجاهل تكتيك المعارضة القائم على المماطلة (عدد كبير من عمليات التصويت على تعديلات تافهة)، وذلك استنادا إلى أحد مقتضيات القانون الدستوري الذي يسمح للحكومة بتقديم تشريع باعتباره سؤالا ضمنيا على الثقة، وهو ما غذى بطبيعة الحال شهية "اليسار" في الصراع.
علاوة على ذلك، لم يقدم "دوفيلبان" ما يبدد مخاوف الشباب الفرنسي الذي ينظر إلى التشريع المقترح على أنه يكرس أجواء انعدام الشعور بالأمن الوظيفي. وفي هذا الإطار، كشفت استطلاعات الرأي أن الطلبة الفرنسيين قلقون إلى درجة أن 76 في المئة منهم، ممن تتراوح أعمارهم ما بين 15 سنة و30 سنة، يرغبون في أن يصبحوا موظفين في القطاع العمومي كي لا يتعرضوا للطرد.
أما التداعيات السياسية للأزمة فقد بدت جلية عقب المظاهرات الحاشدة التي نظمت، خلال الآونة الأخيرة، حين وافق الرئيس جاك شيراك في خطاب نُقل على شاشات التلفزة على جوهر ما يطالب به المتظاهرون، وذلك بصيغة تحاشت الإذعان الكامل. لقد أصبح تقاعد شيراك العام المقبل عندما تنتهي ولايته (بل وحتى قبل ذلك) مؤكداً على ما يبدو. أما طموحات "دوفيلبان" الرئاسية لسنة 2007 فتبدو بعيدة المنال، وإن كانت ما تزال أمامه فترة 13 شهراً لإثبات عكس ذلك. في حين جعل نيكولا ساركوزي نفسه محل تدقيق وتمحيص غير مسبوقين، ففي حين يسعى إلى تلميع صورته، يبدو أنه عاجز عن تقديم نفسه بصورة جيدة خارج فرنسا، كما يبدو أنه يفتقر إلى مقومات الرئيس. أما الاشتراكيون فيقدمون ستة مرشحين، لكن معظمهم غير مقنع. وقد أظهرت الأزمة مدى انقسامهم وافتقارهم إلى برنامج سياسي، كما أنهم ما يزالون يعانون تبعات سجل الرئيس الراحل فرانسوا ميتران.
والواقع أن الحزبين كلاهما لا يقومان سوى بتحد رجعي للنموذج الاجتماعي والاقتصادي لحرية السوق الذي ترفضه فرنسا. ويبدو أنهما (على غرار المفوضية الأوروبية الحالية) غير واعيين بحجم الانتقادات التي تست