في مارس 1955 ألقى رئيس الوزراء البريطاني حينها وينستون تشرشل واحداً من أعظم وآخر خطاباته أمام مجلس "العموم" الذي كان غاصاً بأعضاء البرلمان القلقين. وقد دارت المناقشة التي افتتحها حول ضرورة صنع أول سلاح ردع نووي استراتيجي بريطاني. وبعد أن أشار تشرشل إلى عدم وجود دفاع فعال ضد الأسلحة النووية قال: "ماذا علينا أن نفعل؟ وأي طريق علينا أن نسلكه لإنقاذ أرواحنا ومستقبل العالم؟ الأمر لا يهم كثيراً بالنسبة لكبار السن، فهم سيرحلون قريباً في جميع الأحوال. ولكنه أمر يبعث على القلق بالنسبة للشباب المتمتع بالنشاط والحيوية، والأطفال الصغار الذين يلهون ويلعبون".
وفي مارس 2006 بدأت لجنة الدفاع التابعة لمجلس "العموم" دراسة وبحث إمكانية استبدال نظام الدفاع النووي البريطاني المعروف باسم "ترايدنت"، والذي من المرتقب أن يحال على التقاعد في 2020. ولما كان تصميم خلف لـ"ترايدنت" وتطويره ونشره يتطلب نحو 15 عاماً، فسيكون من الأفضل والأنسب بالنسبة للبرلمان الحالي أن يتخذ قراراً حول نوايا الحكومة في هذا الموضوع منذ الآن.
لقد تعهد رئيس الوزراء توني بلير بفتح نقاش كامل وحقيقي حول الموضوع، غير أن ثمة أطرافاً على يسار المشهد السياسي البريطاني تعتقد أن النقاش المذكور لن يكون إلا شكلياً، معتبرة أن التخطيط السري لما سيحل محل نظام "ترايدنت" يوجد قيد الإعداد منذ الآن.
ومما يجدر ذكره ربما في هذا السياق أن وزارة الدفاع أصدرت مذكرة تعلن فيها عن اعتزامها رصد مليار جنيه إسترليني إضافي لـ"مؤسسة الأسلحة الذرية"، وأنها ستعمل قريباً على توظيف ألف موظف إضافي، معظمهم من العلماء.
لقد كنت إبان فترة الحرب الباردة الطويلة من بين المؤيدين لفكرة أن تكون للمملكة المتحدة أسلحتها النووية الخاصة بها. فوقتها كانت ثمة أسبابٌ ومبررات قوية لأن تمتلك دولة أوروبية غربية وعضو في حلف شمال الأطلسي سلاحاً ردع نووياً، حيث كان من الوارد حينها أن الاتحاد السوفييتي لم يكن يعتقد أن للولايات المتحدة التزاماً تاماً تجاه أوروبا الغربية وأنها ستهب لمساعدتها. كما أنني دُعيت مرة لرؤية القدرة النووية الفرنسية وأُصبت بالذهول حقاً، غير أنه من المعلوم أن فرنسا تبنت على مدى سنين عدة سياسة واضحة تقضي بعدم الالتزام باستراتيجية التحالف.
أما في مارس 2006 فالمشهد الدولي مختلف جداً. ومع ذلك، فالمفروض أن تحظى فكرة استبدال "ترايدنت" بتأييد حزب "العمال" وحزب "المحافظين".
يُذكر في هذا السياق أن استطلاعات الرأي التي أجريت في الآونة الأخيرة تشير إلى أن ثمة أغلبية كبيرة تؤيد ذلك، فالحكومة الحالية لا ترغب في إعطاء الانطباع بأنها متساهلة بخصوص موضوع الدفاع، في وقت يبحث فيه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة طموحات إيران النووية. كما أن السياسة أحادية الجانب، لم تكن قديماً، من السياسات الرئيسية لحزب "العمال"، وقد ساهمت في إبقائه بعيداً عن الحكومة. وبالتالي فالزعماء الحاليون لحزب "العمال" البريطاني لا يرغبون في أن يعيشوا تجربة مماثلة من جديد.
والحقيقة أنه يمكننا تدشين نقاش مفيد ومثمر. لقد أخبر السير "مايكل كوينلان"، الذي شغل منصب مساعد وزير الدفاع في التسعينيات والخبير في الاستراتيجية الدفاعية، الجلسة الافتتاحية للجنة الدفاع المكلفة بالبحث في مسألة استبدال "ترايدنت": "عندما يتعلق الأمر بشيء يمثل تأميناً ضد مجموعة من الظروف غير واضحة المعالم والبعيدة جداً، فعلينا أن نعرف المبلغ الذي نحن مستعدون لدفعه مقابل ذلك التأمين، وحجم الأخطار الذي نحن مستعدون لقبوله؟ ويمكنني القول إنه ستكون ثمة تكلفة مرتفعة جداً للدفع مقابل تأمين بقائنا ضمن هذا المجال".
الواقع أنه لا روسيا ولا الصين يمكن النظر إليها باعتبارها مصدر تهديد محتمل قد يستعمل الأسلحة النووية ضد المملكة المتحدة، ومعلومٌ أن القوة النووية للولايات المتحدة تراوح مكانها. كما أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي استهدفت نيويورك وواشنطن بينت أن التهديد الجديد هو ذو طبيعة مختلفة تماماً، وأن سلاح الردع النووي بات غير ذي قيمة في مواجهة الإرهاب الدولي.
حتى الآن لم يخبرنا أحد كم ستبلغ تكلفة النظام الجديد الذي قد يحل محل "ترايدنت". وسائل الإعلام تحدثت عن مبلغ 20 مليار جنيه إسترليني. ومعلومٌ أن ميزانية الدفاع البريطانية تعاني ضغطاً كبيراً، حيث سُجل نقص في التجهيزات إبان غزو العراق. كما أننا في حاجة إلى المزيد من القطع البحرية، كما هو الحال دائماً. وفي حاجة إلى المزيد من كتائب المشاة، كما هو الحال دائماً أيضاً. وبالتالي يجوز التساؤل: أليس من الأفضل إنفاق بعض من ذلك المبلغ الضخم على نظام دفاعي متطور مضاد للصواريخ؟ وبعيداً عن ميزانية الدفاع، فمما لاشك فيه أن ثمة طرقاً جيدة عديدة لإنفاق 20 مليار جنيه إسترليني!
وإلى ذلك، ثمة أسئلة أساسية أخرى: ألن يبعث استبدال نظام "ترايدنت" برسالة ما إلى كوريا الشمالية وإيران أو دول نووية محتملة أخرى؟ وهل يعتبر سلاح ردع نووي صغير اقتراحاً واقعياً؟ وه