عرفت الثقافة العربية القديمة نوعاً من الكتابات السياسية الموجهة إلى الخلفاء والحكام والسلاطين، ألفها أصحابها بطلب من الخلفاء، أو فقط لدوافع ذاتية ومعرفية، إسداء للنصيحة وإعمالاً للعقل والرأي لتفكيك وتشريح العلاقة بين السلطة والعامة، هي ما يعرف في المجال الحضاري العربي الإسلامي عادة بـ"الآداب السلطانية" ومن أشهرها كتاب الماوردي: "الأحكام السلطانية" ذائع الصيت. والكتاب الذي نعرضه هنا وعنوانه "الآداب السلطانية: دراسة بنية وثوابت الخطاب السياسي" لكاتبه د. عز الدين العلام، يشتمل على مقاربة واسعة لهذا النوع من الأدبيات السياسية العربية التراثية، من خلال محاولة توصيف للمحددات المنهجية، وللخصائص الجامعة. وينطلق المؤلف ابتداءً من تحديد مجال النص المعرّف بـ"الأدب السلطاني"، مثيراً مجموعة أسئلة هي ما سيسعى للإجابة عليه خلال جهده التنظيري المضني داخل الكتاب، ولعل من أبرزها: ما هو المقصود من عبارة "الآداب السلطانية"، وهل يمكن حصرها في تعريف أو تعاريف ما؟ وألا توجد عبارات أخرى تحيل على هذا النوع من التفكير السياسي؟ وما مختلف العوامل التي ساعدت على هذا الظهور؟ وكيف تلازمت ولادته مع ميلاد "الدولة"؟ وللإجابة على مثل هذه الأسئلة الموضوعية المتشعبة يشحذ المؤلف جهازه النظري ويقدم مقاربته في تأن وحذر منهجي ومفهومي واضحين. غير أنه قبل ذلك يتحول لتوضيح الإطار النظري والتصوري لمجال الدراسة بصفة عامة، بما فيه من دراسات معاصرة سابقة، ويعطيه أثناء ذلك، ما يستحقه من اهتمام.
وفي القسم الأول وعنوانه "محددات الكتابة السياسية السلطانية"، يبدأ د. عز الدين العلام بمساءلة ما يعتبره محددات أو ثوابت في الكتابة السلطانية العربية الإسلامية بوجه عام، وهي محددات يستشفها بطرق مختلفة، إما من خلال استنطاق سيميولوجيا العناوين، أي المعاني المشتركة الثاوية في العنونة كاستراتيجية للتسمية، ناطقة بمحتويات الكتب السلطانية بدقة. أو يقوم بذلك عن طريق تحليل تقنية الكتابة نفسها التي يصوغ من خلالها الكاتب السياسي السلطاني تصوراته، "وهي تقنية تعكس طريقة خاصة من طرق التفكير في المجال السياسي، يمتزج فيها الأدب (بالمعنى القديم للكلمة) بالتاريخ، وهما معاً بالسياسة". وضمن هذا الجهد يقوم العلام ببسط ما سماه "مورفولوجية النص السلطاني"، مشيراً إلى التصنيفات الممكنة لأنواع النصوص المكتوبة في هذا الموضوع، سواء أكان ذلك بالتحقيب الزمني لكاتبيها، أو بردهم إلى مجالاتهم الجغرافية التي ينتسبون إليها، مثلاً "المغرب- المشرق"، أو حتى باعتماد معيار التنوع داخل مضمون الكتابة السلطانية ذاته باعتباره هو الأجدر بتصنيف طبقاتها ونصوصها وفق محددات ما هي ناطقة به فقط. وفي ملاحظة نبيهة يستدعي الكاتب عناوين بعض النصوص السلطانية، مبرزاً الطريقة التصورية الكامنة وراء العنونة ذاتها، إذ بحسبها هنالك عدة أنواع من الكتب السلطانية منها "الكتاب الناصح" مثل "سلوك المالك في تدبير الممالك" لابن أبي الربيع، و"واسطة السلوك في سياسة الملوك" لأبي حمو الزياني، و"الإشارة في تدبير الإمارة"، للحضرمي المرادي، إلخ. وهنالك أيضاً "الكتاب المنير" الذي يريد صاحبه إنارة طريق الملوك لتدبير الحكم، ومن هذا النوع، "الشهب اللامعة في السياسة النافعة" لابن رضوان و"المصباح المضيء" لابن الجوزي. وهنالك كذلك "الكتاب الذهبي" الذي يقدمه صاحبه على أنه معدن "نفيس" متميز عن باقي المعادن "المغشوشة"، وهنا يبرز كتاب "الذهب المسبوك في وعظ الملوك" للحميدي، و"التبر المسبوك" للغزالي. وأخيرا يأتي "الكتاب النادر"، ممثلا في نماذج منها "التحفة" للطرطوسي، و"البدائع" لابن الأزرق، وغيرهما.
وبعد ذلك يتعرض د. عز الدين العلام لمفهوم السياسة بالمعنى التقني كما استبطنه النص السلطاني التراثي، مستعرضاً محتويات بعض أبرز الكتب في هذا المجال، من خلال بسط الطريقة المنهجية والإجرائية التي ألفت بها، ومنبهاً في الوقت نفسه إلى الخيط الناظم لخطابها السياسي جميعاً، بحيث تشكل نوعاً من الانتماء بطرق مختلفة إلى "المتن" المشترك، الذي تقع الاختلافات وتدخل الاجتهادات في سياق ينضوي تحت محدداته المؤسِّسة. كما يسائل الكاتب في الجزء الثاني من هذا القسم "أدبية" النص السلطاني، ساعياً هنا إلى عزل ما هو أدبي عما هو سياسي في بنية النص السلطاني العربي الإسلامي، وقد اقتضى منه ذلك إضاءة ما سماه "انحلال المرجعيات في "أدبية" النص"، مع الإشارة هنا إلى أن القراءة المنهجية دفعته إلى تفكيك يفض الاشتباك بين التاريخيات والأخلاقيات والشرعيات التي يتأسس عليها جميعا هذا النوع من الكتابة السياسية باعتبار كل ذلك أرضية مرجعية فيها يجد أصله ومادته. كما يقوم في الجزء الثالث من هذا القسم بمحاولة الحفر في دلالة مفهوم "المؤلف" و"النوع" في الأدب السلطاني من خلال تحديد المكانة التي يدخل فيها المؤلف في علاقته بالنص حضوراً أو غياباً، وأيضاً من خلال المرجعيات الذهنية الهلينستية اليونانية أو الإسلامية الخاصة المعتمد