قد يتعامل العقل الإعلامي الغربي مع كل الظواهر العربية، في كل الحقول، بالسؤال عن أسبابها إلاً في حقل السياسة فإنه يكتفي بتحليل ووصف الظواهر دون أن يحاول معرفة أسبابها. ذلك أمر لاحظته في كل مؤتمر حضره كبار مندوبي الإعلام الغربي ليناقشوا مشاكل الأرض العربية وآلامها. والسبب في رأيي واضح. فهؤلاء الغربيون يعرفون جيداً أن كثيراً من أسباب عللنا ومآسينا ستتوجه بأصابع الاتهام إلى دولهم وإلى أمراض حضارتهم وإلى غفلة شعوبهم. من مآسي الشعب العربي في فلسطين والعراق والسودان، إلى العجرفة والهيمنة الصهيونية واستقوائها، إلى ضعف نظامنا القومي الإقليمي، إلى حصاراتنا الاقتصادية ونهب ثرواتنا الطبيعية، إلى إسناد الاستبداد الداخلي في أرضنا، في كل ذلك وغيره تتجه الأسباب إلى الموجات الاستعمارية الغربية المتلاحقة، وإلى إصرار الغرب على تجزئتنا، وإلى رفض التعايش مع ثقافتنا وعدم الاعتراف بدين أغلبيتنا، وإلى "تدويخنا" بالمشكلة تلو المشكلة كزرع المشروع الصهيوني في أرضنا. الغرب يعرف جيداً أنه لن يستطيع النوم إن طرح الأسئلة الصادقة الصّعبة على نفسه ورأى سوء تعامله التاريخي والحاضر معنا، واكتشف كوابيس وزيف ما آلت إليه أفكار عصر الأنوار والحداثة التي نادى بها ثم خانها أو تناساها أو زوَّرها.
اليوم يمارس الغرب نفس اللعبة المخادعة للنفس مع حكومة "حماس". التحليل والوصف يقوده إلى أن حماس "لا تعترف بإسرائيل" وتصرُّ على ما يسميه "الإرهاب"، وترفض الاعتراف بالاتفاقيات السابقة المجحفة بحقوق الفلسطينيين الأساسية المعروفة، لكنه كعادته لا يطرح على نفسه الأسئلة ليعرف الأسباب.
فالأسباب ستقود إلى الغرب. فهو الذي أقام "إسرائيل" وهو الذي سمح بتشريد سكان فلسطين، وهو الذي أمدّ الحركة الصهيونية في فلسطين بالسلاح والمال والإسناد السياسي، وهو الذي سمح لعتاة الصهيونية بأن يمزِّقوا كل اتفاق سابق. وبمعنى آخر فإن الغرب مسؤول مسؤولية كاملة، أخلاقية وسياسية وعسكرية واقتصادية، عن الكارثة العربية في فلسطين. وبدلاً من أن يتصالح مع ضميره وعقلانيته وشعاراته التي رفعها منذ بداية عصر الأنوار في الحرية والعدالة والإخاء والمساواة والعقلانية والمدنية لجميع البشر، فإنه يريح ضميره وروحه من خلال تقديم النصائح لـ"حماس"، ثم ابتزازها، ثم إذلالها لتقبل بحلول تتناقص مع كل مبادئ أنواره التي تلاشت في الظلام الحالك لتقلب ممارسته لحضارته قسوة وعبث.
هل نطلب من "حماس" أن ترفض طريق السلامة المعروض عليها كثمن لبيع شرفها وعذريتها؟ نعم، نطلب ذلك حتى ولو أدى هذا الرفض إلى فقدان جاه وصولجان السلطة اللذين يتسابق البعض على استرجاعهما من يد الشعب الفلسطيني الذبيح. لكن دعنا نذكر "حماس" بقول الشاعر الألماني شيلر: إن سلامتنا لا تتحقق في عمانا عن رؤية الأشياء، وإنما تتحقق في مواجهة الأخطار". الغرب يريد لهم العمى ولا يريد لهم قط مواجهة الأخطار بنجاح. دعنا نذكر "حماس" أيضاً بما قاله الأميركي بنجامين فرانكلن: "إن أولئك الذين يتنازلون عن حريتهم ليعيشوا في سلامة مؤقتة لا يستحقون على الإطلاق لا الحرية ولا السّلامة".
هل تحتاج قيادة فلسطين الحالية، ممثلة في "حماس" وليس في الانتهازية الفلسطينية السابقة واللاحقة للمساعدة؟ نعم، إنها بحاجة كبيرة لكل مساعدة حكومية وشعبية عربية عبَّر عن تفاصيلها كل شرفاء هذه الأمــة، ولا نحتاج لتكرارها.
بطل كاتب أثينا العبقري "يوريبيدس" كان يصرخ بأن: "المصيبة ستسحق رجلاً واحداً الآن، ثم الآخرين بعد ذلك". الغرب والصهيونية وكبار موظفي هيئة الأمم يريدون سحق "حماس" الآن، ثم الشعب الفلسطيني، ثم الشعب العربي والإسلامي بعد ذلك. ضميرهم جميعاً قد تعفّن، وذاكرتهم التاريخية ماتت ولذلك لن يسألوا قط عن الأسباب وسيظلُّون يتعاملون أبداً مع الظواهر.
د. علي محمد فخرو