في العراق عندما لا يعيش للشيعي أولاد يسمي مولوده الجديد عُمر، يفعل السنّي ذلك أيضاً فيُسمّي ابنه عباس. كلاهما يعتقد أن تسمية مولوده الجديد باسم محبّذ لدى الطائفة الأخرى يضمن له الحياة، أو كما يقول العراقيون: للعيشة. هذه حكمة غريزية يتوارثها العراقيون عبر القرون لا يُدركها القادمون على دبابات الاحتلال لحكم العراق. فمنذ فجر التاريخ تفاعلت وتعايشت في بلاد ما بين النهرين الأديان والأعراق والأجناس والقوميات واللغات واللهجات والمذاهب والمعتقدات. إنفاق مليارات الدولارات على إنشاء أحزاب وحركات وبرامج وأساطير طائفية لن يغير خريطة الجينات "الموّرثات" في كل خلية من جسم الفرد العراقي, الذي يتكون، كجسم أي إنسان من تريليون خلية. هذا هو سر قيام أعرق الحضارات البشرية في بلد لم يشهد حرباً أهلية واحدة طوال تاريخه. ومن يضاهي العراقيين في قدرتهم على حفظ كيان دولتهم، وتأمين السلام الاجتماعي طوال 14 عاماً من حظر دولي شامل، وقصف شبه يومي، وتآمر كشف الغزو عن حجمه الحقيقي؟
لعبة الحرب الأهلية مكيدة دموية أخرى في أجندة الحرب على العراق، التي استُخدمت فيها آلة إعلامية واستخباراتية جبارة خلّفتها الحرب الباردة. وقد فضحت أكذوبة أسلحة الدمار الشامل كيف تحوّل الإعلام العالمي إلى فرقة أوركسترا يتناوب على قيادتها مايسترو من لندن وواشنطن 24 ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع. هذه الحرب النفسية الماكرة، التي لا مثيل في التاريخ لحجمها ومواردها مستمرة إلى حدّ اليوم. وتكتيك "اصدم وروّع"، الذي استخدم في غزو العراق يغذيه الآن المحتلون وأعوانهم بدماء السكان الأبرياء، من الأطفال والنساء. وتحوّل شهود الزور، الذين استُخدموا في اختلاق أكذوبة أسلحة الدمار الشامل إلى حُكّام لعبة الحرب الأهلية الدموية.
ويحطم القلب اتهام سُنة، أو شيعة العراق بارتكاب جرائم القتل الجماعية وتخريب الأضرحة والمساجد. فالمسؤولية الفعلية والقانونية تتحملها الإدارة البريطانية والأميركية، والحكومات المتعاقبة، التي نصّبوها في المنطقة الخضراء. وساذج من يعتقد أن حلّ القوات المسلحة العراقية كان خطأ. فالناس في كل العالم يدركون ما قد يحل بسكان بلد من دون قوات جيش وبوليس وأمن.
وأيّ حرب أهلية يمكن أن تقوم بين العراقيين، الذين يتفقون على أمر واحد، هو مناهضة الاحتلال، والرغبة في إنهائه؟ يعترف بهذا حتى جنرالات أميركيون جاءوا لتكرار تجربة يوغسلافيا في العراق. يذكر ذلك آخر التقارير الميدانية في صحيفة "نيويورك تايمز" عنوانه: "الانقسام العراقي يكرر صدى البوسنة". ينقل التقرير بروح استقصاء استخباراتية جو التوتر الطائفي بين السكان السُّنة في مدينة "جرف الصخر"، التي تبعد مسافة نحو 50 كلم جنوب بغداد، والشيعة في مدينة المسيب القريبة منها. ويختتم التقرير بشكوى من الاحتلال ينقلها جنود أميركيون عن ضابط الشرطة الشيعي صلاح الشمّري، الذي يقول لهم "كل ما أتمناه أن تقدروا على إعادة البلد إلى ما كان عليه عندما جئتم".
ويعرف كل من يملك ثقافة بسيطة في التاريخ أن العراق ليس يوغسلافيا، وأرض الرافدين ليست أرض البلقان. يقرّ بذلك "جوناثان ستيل"، المعلق السياسي لصحيفة "الغارديان" البريطانية في تقريره الأخير من بغداد: "حلفاء الولايات المتحدة وراء فرق الموت والتطهير العرقي". الحلفاء في تقديره هم المليشيات الطائفية، التي جاءت مع الاحتلال، كقوات بدر التابعة لما يُسمى "المجلس الأعلى". ويؤكد الكاتب السياسي البريطاني "روبرت فيسك" في حديث مع قناة تلفزيون "أي بي سي" الأسترالية أن فرق الموت في وزارة الداخلية العراقية هي المسؤولة عن ذلك. "ومن يدير وزارة الداخلية في بغداد"؟ يسأل "فيسك"، الذي نقل للعالم في أول أيام الاحتلال وقائع جريمة إحراق المتحف العراقي. ويجيب على تساؤله قائلاً: "يديرها من يدفع مرتبات موظفي وزارة الداخلية.. نحن سلطات الاحتلال".
ويجمع المراقبون المحايدون على أن هدف فرق الموت ليس مجرد استهداف جماعة إثنية واحدة، بل توجيه العنف على الجميع لخلق أكبر ما يمكن من الخوف لإرهاب العراقيين وإخضاعهم. وكيف يفلح المحتلون في ذلك، إذا كانت حتى المنظمات النسائية غير الحكومية، التي أنشأوها تناهضهم الآن؟ يعكس هذا تقرير نتائج استقصاء ميداني منشور في نشرة "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" IRIN. يذكر التقرير، وعنوانه "الجماعات النسوية تقول: النساء كنّ أكثر احتراماً تحت حكم صدّام" أن الاستقصاء الميداني كشف عن "تردّي ظروف حياة المرأة العراقية عمّا كانت عليه تحت ظل النظام السابق وانتقاص حقوقهن". وذكرت سنار محمد، رئيسة "منظمة حرية المرأة" المساهمة في تنظيم الاستقصاء الميداني أن "الحقوق الأساسية للمرأة كانت مضمونة في الدستور السابق، والأهم من ذلك أن مكانة النساء كانت محترمة أكثر من الوقت الحالي، وكنّ يتولين مناصب مهمة في الدولة". واعترفت النساء المساهمات في الاستقصاء بأنهن اعتقدن "عندما دخلت القوات الأميركية العراق أن هذه قد تكون فرصة ع