قبل ثلاثة أرباع القرن كان الأميركيون غالبا ما يحتكمون في نظرتهم اتجاه الصين إلى منظارين ينطويان على قدر كبير من التضليل ويستندان في مجملهما على أعمال شهيرة تندرج في صميم الثقافة الشعبية الأميركية التي تعود إلى فترة الثلاثينيات من القرن الماضي. يتبدى المنظار الأول من خلال الرواية الشعبية الصادرة سنة 1931 "الأرض الطيبة" لمؤلفها "بيرل باك"، إلى جانب فيلم سينمائي اقتبس من الرواية نفسها وعرض في دور العرض الأميركية سنة 1937. أما المنظار الثاني فيعتمد على الفيلم السينمائي "قناع فو مانتشو" لسنة 1932، الذي أظهر الصين في صورة تنضح بمظاهر سلبية ومتخلفة. ورغم مرور وقت طويل على ذلك الزمن وحدوث تغيرات هائلة على الصين، فإنه بإلقائنا نظرة سريعة على لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة نكتشف مدى استمرار الصور النمطية ذاتها، التي أسستها الكتب والأفلام الأولى، في تكريس نظرة مضللة على واحدة من أهم دول العالم وأكثرها سكاناً.
"أسئلة في أذهاننا: النظرة الأميركية للصين والهند" عنوان لدراسة قيمة صدرت سنة 1958 للصحفي البارز والبروفيسور في معهد "ماساتشوستس" الشهير "هارود آيزاك"، حيث يعتبر أول كتاب يتعرض بالدراسة والتحليل للنظرة الأميركية تجاه الصين. وحسب الكتاب تنقسم تلك النظرة إلى قسمين يسهمان بشكل رئيسي في صياغة فهمنا للشعب الصيني. النظرة الأولى تنهض على الصور الإيجابية التي كرستها في أذهان الناس رواية "بيرل باك" وتقول إن الصينيين أناس "بسطاء لكنهم أقوياء وشجعان يستطيعون التأقلم بسرعة مع نوائب الدهر وتقلباته". ثم هناك نظرة سلبية يتبناها العديد من الأميركيين تصور الصين على أنها مرتع الرجال القساة المتعطشين للسلطة تماماً مثل شخصية "فو مانتشو" في الفيلم السينمائي القديم. وفيما ساهمت النظرة الأولى في ترسيخ الاعتقاد بأن في مقدور الصينيين اعتناق أسلوبنا في الحياة والإقبال على شراء بضائعنا فقط لو منحوا الفرصة، تؤجج النظرة الثانية المواقف التي باتت منتشرة اليوم من أن الصين خطر داهم يهدد الغرب والمصالح الأميركية.
وسيواصل المؤلف "آيزاك" "تدبيج المقدمات تلو المقدمات لنسخ جديدة من كتابه "أسئلة في أذهاننا"، حيث كان يشير في كل مرة إلى استمرار تلك الصور النمطية في تحديد فهمنا للصين وتشكيل وعينا إزاءها، وهي الأوهام التي ستظل معششة في أذهان الأميركيين إلى غاية الثمانينيات من القرن المنصرم. ولو لم يكن المؤلف قد غيبه الموت لسعت دور النشر إلى إقناعه بإعادة طباعة كتابة مجدداً ما دامت نظرتنا اتجاه الصين لم تتغير إلا قليلاً، وما دامت نظرتنا لذلك البلد الشاسع والمتنوع لم تزل حبيسة الأنماط العتيقة نفسها حتى بعد ولوجنا قرنا جديداً. واللافت أن الرواية القديمة التي صدرت في ثلاثينيات القرن الماضي لمؤلفها "بيرل باك" عادت إلى الواجهة مجدداً بعدما ضمتها الإعلامية الأميركية الشهيرة "أوبرا وينفري" إلى قائمة كتبها لعام 2004. وثمة كتاب آخر صدر حديثاً ويحظى بشعبية كبيرة لدى جمهور القراء في أميركا ألفه كل من "يانج تشانج" و"جون هاليداي" تحت عنوان "ماو: القصة المجهولة". والكتاب بدلاً من أن يعكس الشخصية المعقدة للزعيم الصيني "ماو تسي تونج" المسؤول عن العديد من المآسي والآلام التي عانى منها الشعب الصيني خلال فترات معينة كما هو سائد في الأوساط الأكاديمية، صور الكتاب ذلك الزعيم على أنه شخص سادي جسد في ذاته كل صفات العنف والقسوة. لذا ليس من الغريب أن يعجب جورج بوش بالكتاب، حسب رواية "نيويورك تايمز"، ويعتبره دراسة عظيمة.
وليس هدفي من خلال الإشارة إلى الكتب التي تعرض للصين الانتقاص من المهارة الأدبية للمؤلفين وقدرتهم على اجتذاب القراء، رغم أني كنت واحداً من المختصين في الشؤون الصينية الذين نشروا عروضاً منتقدة للكتاب الذي تناول حياة "ماو تسي تونج" بطريقة تنطوي على الكثير من الإثارة، بل الهدف النهائي من وراء تطرقي لتلك الكتب هو لفت الانتباه إلى أن الاحتفاء بها في أوساط القراء إنما يثبت أننا كأميركيين مازلنا أسرى للنظرة الضيقة القديمة التي شكلت مواقفنا تجاه الصين طيلة الفترة السابقة، في حين أننا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى نظرة موضوعية قائمة على مقاربات أكاديمية متخصصة تتناول الموضوع الصيني بعيداً عن الصور النمطية السائدة التي ترسخت في الأذهان بسبب منتجات الثقافة الشعبية سواء في شقها الأدبي أو شقها السينمائي. ومعلوم أن الثقافة الشعبية من حيث إنها تترفع عن التفاصيل والتناقضات تميل أكثر إلى التسطيح والتنميط بخلاف الدراسات المتخصصة التي تقارب الموضوع بعلمية أكثر.
ولا يخلو المجال من كتب قيمة تمنحنا الفرصة لتجديد نظرتنا تجاه الصين. ولعل أهم تلك الكتب "الوجه المتغير للصين" لمؤلفه "جون جيتينجز"، المتخصص في الدراسات الصينية، وصاحب الخبرة الطويلة في الشؤون الصينية التي صقلتها سنوات مديدة قضاها كمراسل لصحيفة "الجارديان" البريطانية في بكين. يضاف إلى ذلك كتاب آخر يسعى إلى تغيير النظرة السائدة في