في خطابه الافتتاحي لدورته الرئاسية الثانية, أعرب الرئيس بوش عن التزام بالغ الدلالة لكل الشعوب المقهورة والمتحرقة شوقاً إلى الحرية والديمقراطية بقوله: "سنقف إلى جانبكم دائماً, ما أن تهبوا دفاعاً عن حريتكم". وعلى امتداد نصف القرن تقريباً, كان أفضل تعبير عن هذا الالتزام, البرنامج الفيدرالي لإعادة توطين اللاجئين. ويسعى هذا البرنامج التابع لوزارة الخارجية الأميركية, دائماً إلى توفير الحماية والملاذ الآمن, لأولئك الذين يخشون قهر حكومات بلدانهم الاستبدادية الباطشة. ولكن من المؤسف أن يحرم هذا العام, آلاف المدافعين عن الحرية والديمقراطية في بلدانهم, من الحماية التي نوفرها لهم ضد ما يتعرضون له من بطش وقهر جراء مواقفهم تلك, وذلك بسبب تفسير بيروقراطي لنصوص "دعم الإرهاب".
والمعلوم أن القوانين الفيدرالية الأميركية قد حرمت حق اللجوء لكل من ارتكب عملاً إرهابياً أو وفر دعماً مادياً للإرهابيين منذ وقت بعيد. وقد جرى تعزيز هذه القوانين أكثر من أي وقت مضى, عقب هجمات 11 سبتمبر. غير أن مشكلة اللجوء قد طرأت عليها تعقيدات الآن, بسبب تشريع جديد وضع إطاراً تعريفياً أوسع للإرهاب والإرهابيين. ولكن تبقى حقيقة أنه ستكون لهذه التعديلات أو الإصلاحات التشريعية قصيرة النظر وعديمة الرؤية, عواقب جد وخيمة على أرواح الآلاف, الذين تهدد حياتهم آلة القهر الشريرة الجهنمية في بلدانهم.
ففي كولومبيا على سبيل المثال, دأبت عصابات "فارك" اليسارية المتطرفة, على اختطاف المدنيين ومطالبة ذويهم بدفع فدية مقابل إطلاق سراحهم. كما تبتز العصابات ذاتها, المواطنين بسداد ما تسميه "ضريبة الحرب" في المناطق التي تبسط عليها نفوذها وسيطرتها. وبالطبع فإن هذه المطالبة ليست سلمية بأي حال, وإنما تأتي تحت وعيد وتهديدات إلحاق الأذى والقتل في حال عدم السداد. وجراء هذا الابتزاز سواء بواسطة الفدية أم ضريبة الحرب, فقد فر ما يقارب الألفي مواطن كولومبي من بلادهم, وجرى تسجيلهم في قوائم الأمم المتحدة للاجئين, إلا أنهم حرموا من حق اللجوء إلى الولايات المتحدة الأميركية, وذلك وفقاً للنص القانوني الخاص بالدعم المادي للإرهاب! فكيف يحاكم القانون الأميركي من كان مرغماً على سداد الضرائب وتقديم الفدية عن ذويه, تحت فوهات المسدسات والبنادق والتهديد المباشر بالقتل؟ وهل كان ذلك الدفع إرادياً وطوعياً حتى يسمى "دعما"؟
أما في ليبيريا فقد أحال المفوض السامي لشؤون اللاجئين هناك, ملف مواطنة ربة أسرة لبرنامج إعادة التوطين الأميركي, على اعتبار أنها عرضة لتهديد مباشر لحياتها, حيث اعتدى المتمردون الليبيريون على أسرتها وقتلوا والدها, وأوسعوها هي ضرباً قبل أن يخضعوها لقسوة جريمة الاغتصاب الجماعي. ثم إنهم لم يكتفوا بذلك فحسب, بل اتخذوا منها رهينة داخل بيتها وأرغموها على غسل ملابسهم جميعاً. غير أنها تمكنت أخيراً من الفكاك والهرب بعد أسابيع عديدة, واحتمت بأحد معسكرات اللاجئين في وطنها. ولكن ماذا كان تعليق وقرار مسؤولي الأمن القومي على طلبها؟ لقد قدمت هذه المرأة "دعماً مادياً للإرهابيين" لكونها آوتهم في بيتها وقامت بغسل ملابسهم, وعليه فقد تم تعليق الطلب! فهل ثمة عبث وغباء ولا عقلانية أكثر من هذا؟
وفي حادثة مماثلة في سيراليون, اعتدت مجموعة من المتمردين في عام 1992 على أسرة, وقتلت من أفرادها شاباً تحت ضربات المناجل الوحشية المبرحة, بينما عرضت أحد أعضائها القصّر للحرق والتعذيب, وقامت باغتصاب الأم وابنتها اغتصاباً جماعياً, ثم حبستهما عدة أيام داخل منزلهما. ولك أن تتخيل مدى ضحالة وسذاجة تأويل القانون لدى سلطات الأمن القومي, التي علقت طلب الهجرة, اعتماداً على هواجس توفير الدعم المادي للإرهابيين, الناشئة عن إيواء الفتاة وأمها لأولئك الإرهابيين! ويكمن العبث وقصور النظر واللاعقلانية في هذا التأويل, في عدم أخذ التفسير بما إذا كان "الدعم" المعني قد تم إرادياً أم تحت الإكراه والقهر؟
ومن المؤسف حقاً أن ممارسات ومواقف مسؤولي الأمن القومي, تفوق كثيراً الآن حدود حرمان اللاجئين المتأثرين بانتهاكات حقوق الإنسان من حق اللجوء إلى أميركا. ذلك أنهم أضحوا أسرى هواجس الإرهاب وهلوساته, الأمر الذي يجعل من الولايات المتحدة, ملاذاً مستحيلاً ومغلقاً أمام ضحايا هذه الانتهاكات. ليس ذلك فحسب, بل إن مشكلة هؤلاء الضحايا تتفاقم أكثر من ذي قبل, بسبب منحهم حق اللجوء المؤقت في بعض الدول, التي ربما تقرر ترحيلهم إلى بلدانهم التي فروا منها في لحظة ما, فيصبحون بذلك أمام خطر مباشر لا سبيل للفرار منه ثانية.
والأخطر من ذلك كله, قلب السياسات الأميركية إزاء الحكومات الشمولية الاستبدادية رأساً على عقب, جراء سياسات اللجوء الجديدة التي جرى تبنيها مؤخراً. وإن لم يكن الأمر كذلك, فكيف لأميركا أن تحرم ضحايا الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان, حق اللجوء وإعادة التوطين في أراضيها؟ وإن أرادت السلطات تصحيح هذا الوضع, فإنه يجوز لوزير الأمن القومي, استثناء أفراد ومجموعات بعينها من نص