آخر مؤشرات المأزق الأميركي في العراق جاء الأسبوع الماضي على لسان مجموعة من ستة جنرالات أميركيين متقاعدين. وجّه هؤلاء انتقادات مباشرة لوزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، خاصة لطريقته في إدارة حرب العراق، والتي، كما يقول الجنرالات، هي المسؤولة بشكل أساسي عن المأزق الذي انتهت إليه هذه الحرب. واللافت هنا هو اتفاق الجنرالات الستة على المطالبة علنا باستقالة رامسفيلد في أحاديث لهم متتالية للإعلام الأميركي. وهذا مؤشر على المأزق الأميركي في العراق، لأن موقف الجنرالات لا يأتي فقط معبراً عن ضيق المؤسسة العسكرية من الطريقة التي اتبعتها معها القيادة السياسية في إدارة حرب العراق، وإنما ليضع مسؤولية فشل الحرب على كاهل القيادة السياسية ممثلة بوزير الدفاع. وبالتالي فإن أسباب المأزق الأميركي في العراق هي في الأساس أسباب أميركية. أهم هذه الأسباب هي القيادة السياسية في وزارة الدفاع، ومن هنا المطالبة باستقالة رامسفيلد. تنبع أهمية هذا الموقف من هذه الناحية من أنه يأتي من داخل المؤسسة العسكرية الأميركية التي تتولى إدارة الحرب في العراق، ومن جنرالات شارك بعضهم في هذه الحرب. ومع أن موقف الجنرالات هنا معني أساساً بالناحية العسكرية، إلا أنه بذلك يضيف عنصراً آخر يؤكد فشل المعطيات والفرضيات السياسية التي على أساسها وضعت فكرة حرب العراق من أساسها.
يطرح موقف الجنرالات الأميركيين هنا، وفي هذه اللحظة تحديداً مسائل عدة، بعضها أميركي، وبعضها يذكر بحالة وزارات الدفاع العربية، وعلاقتها بالقيادة السياسية. لنبدأ بالمسألة الأميركية التي أثارتها انتقادات الجنرالات العلنية لوزير الدفاع، رامسفيلد، ومطالبتهم إياه بالاستقالة. وهي مسألة حيوية وحساسة في الوقت نفسه، وتتعلق بطبيعة العلاقة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية في النظام السياسي الأميركي. أحد الأسس التي يرتكز إليها هذا النظام هو أن المؤسسة العسكرية تخضع لسيطرة القيادة السياسية. وحسب صحيفة الـ"نيويورك تايمز" فإن التوتر بين القيادتين السياسية والعسكرية مسألة روتينية، وأحياناً ما يخرج إلى العلن. لكن مبدأ هيمنة القيادة السياسية على المؤسسة العسكرية الأميركية لم يتعرض قط لتحدٍّ جدي. بل إن المادة 88 من "نظام العدالة العسكرية" الأميركي، حسب الصحيفة، تفرض المحاكمة العسكرية لأي ضابط "يستخدم كلمات مهينة ضد الرئيس، أو نائب الرئيس، أو أعضاء الكونجرس، أو وزير الدفاع"، أو أي مسؤول في الحكومة الفيدرالية، أو حكومة ولاية من الولايات الأميركية.
ولعله من الواضح هنا أن ما تنطوي عليه هذه المادة من تحريم يؤكد على أمر واحد، وهو ضرورة خضوع القيادة العسكرية للقيادة السياسية. وتقول الـ"نيويورك تايمز" إن "هذا التحريم لا يمنع القيادات العسكرية من الإفصاح عن رأيها بصراحة تامة في اللقاءات الخاصة، وعندما يطلب منها إبداء الرأي في أمور عسكرية". ويتضح من كلام الصحيفة الأميركية أن حق الضباط العسكريين في إبداء رأيهم بصراحة مشروط بأمرين: الأول أن يتم ذلك في اللقاءات الخاصة، مما يعني الامتناع عن التصريح بالرأي علنا. والثاني، أن لا يعبر الضباط العسكريون عن رأيهم إلا في حالة طلب القيادة السياسية رأيهم في أمور عسكرية. مما يعني أن القيادة العسكرية لا تبدي الرأي، حتى في الشأن العسكري، إلا في حالة طلب منها ذلك. والأهم هنا أنه لا يحق للقيادة العسكرية الحديث، أو إبداء الرأي في الشؤون السياسية. ومن يريد أن يفعل ذلك من الضباط العسكريين فعليه أولاً أن يخرج من المؤسسة العسكرية.
الضباط المتقاعدون، وقد خرجوا من المؤسسة العسكرية، غير خاضعين لهذه الضوابط، ومن ثم يحق لهم التعبير عن آرائهم في الشؤون العسكرية بشكل صريح وعلني. وعليه فإن توجيه النقد للقيادة السياسية للبنتاغون، ومن قبل جنرالات متقاعدين ليس أمراً غير عادي. بل إن هناك سوابق لذلك. ومن أبرزها النقد الذي وجهه الجنرال "دوغلاس مكارثر" عام 1951 إلى سياسة البيت الأبيض (أو الرئيس هاري ترومان) في إدارة الحرب الكورية. وقد أزاح "ترومان" بسبب ذلك "مكارثر" عن مركز القيادة، وأمره بالعودة إلى الولايات المتحدة. لكن الذهاب أبعد من النقد، والمطالبة علناً باستقالة وزير الدفاع، حتى من قبل جنرالات متقاعدين، أثار بعض المخاوف من أن هذا قد يكون بداية أو سابقة لتحول، أو لاختلال في علاقة القيادتين السياسية والعسكرية. وبشكل أدق ألمح البعض إلى سؤال عن إمكانية أن تمثل مطالبة الجنرالات باستقالة رامسفيلد مؤشراً على تغير في التقاليد التي تحكم مواقف وسلوكيات القيادة العسكرية تجاه القيادة السياسية، وذلك بتأثير من حرب العراق، وما انتهت إليه حتى الآن. وهم يشيرون بذلك إلى أن موقف الجنرالات المعلن هنا لا يمثلهم هم فقط، بل الأرجح أنه يعكس موقفاً واسعاً داخل المؤسسة العسكرية، وخاصة الذين لا يزالون في هذه المؤسسة على رأس الخدمة في حرب العراق. فهؤلاء لا يستطيعون حسب القانون التعبير عن آراء نقدية لهم بشكل علني.
وإذا صح ذلك، فإنه