بعد ما يزيد على عقد من الزمان من المحاولات المتقطعة لإعادة النهوض، بدأ الاقتصاد الياباني ينمو بخطوات سريعة ونشطة. وبدلاً من أن يبتهج اليابانيون بذلك كما هو مفترض فإنهم انخرطوا جميعاً في نوبة من التحسر على شيء طالما كانت اليابان تعتز به ألا وهو "المساواة".
فاليوم نجد أن اليابان التي كانت تقوم بتعريف نفسها في عبارة قصيرة هي "مجتمع من 100 مليون نسمة ينتمي بأكمله إلى الطبقة الوسطى" قد أصبحت تصنف شعبها بقسوة إلى "رابحين" و"خاسرين" فقط. وليس هذا فحسب، بل إن الصحف اليومية الكبرى فيها تقوم بإجراء سلسلة من التحقيقات عن الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء تحت عناوين لافتة مثل: "اليابان المنقسمة" و"النور والظلام".
ولحظة الحساب في اليابان حانت في وقت يتأهب فيه الرجل الذي يرجع إليه الفضل في التعافي الاقتصادي الياباني وهو رئيس الوزراء "جونيشيرو كويزومي" لترك منصبه، بعد خمس سنوات من السياسات "الريجانية" القائمة على تخفيف القيود التنظيمية، والخصخصة، وتقليص الإنفاق، وتخفيض الضرائب للأغنياء.. وهي كلها إجراءات أدت إلى انتشال الاقتصادي الياباني من أزمته ولكن ستترتب عليها أكلاف اجتماعية بدأ اليابانيون البالغ عددهم 127 مليوناً في استيعاب معناها الآن فقط وإدراك مداها.
بفضل النمو الاقتصادي، وزيادة أرباح الشركات الخاصة، ستقوم الشركات اليابانية بتوظيف مئات الآلاف من الشباب اعتبارا من أول العام المالي الجديد الذي بدأ في أول إبريل الحالي. وعلاوة على ذلك أغلق مؤشر أسهم "توبكس" على أعلى مستوى له منذ 14 عاما، كما ارتفعت أسعار الأراضي التجارية في ثلاث من المدن الكبرى لأول مرة منذ 15 عاما. في الوقت ذاته واصلت الأبراج العالية انتشارها السريع في كل مكان من العاصمة طوكيو، وتضاعف عدد اليابانيين الذين لا توجد لديهم أي مدخرات في السنوات الخمس الأخيرة، كما ارتفعت كذلك أعداد السكان الذين يستلمون إعانات اجتماعية أو مساعدات تعليمية بما يزيد على الثلث.
فعلى سبيل المثال تقول السيدة "مايومي تيروشي" 38 سنة إنها قد بدأت تستلم مبلغ المساعدة التعليمية، منذ أن التحق ابنها البالغ من العمر 7 سنوات بالمدرسة العام الماضي، وهو المبلغ المخصص لمساعداتها على شراء الحقائب المدرسية، وشراء الشطائر من مقصف المدرسة، وغيرها من النفقات الأخرى اللازمة لابنها والتي يتعين عليها تحملها في المدارس الحكومية. وهي تقول إن مركز ابنها وكذلك ابنتها التي تبلغ من العمر عاماً واحداً قد تحدد منذ الآن في يابان "الرابحين" و"الخاسرين".
وترى هذه السيدة أن هناك فجوة كبيرة بين نوعية التعليم الذي تقدمه المدارس الحكومية وذلك الذي تقدمه المدارس الخاصة في مدينة أوزاكا. فالمدارس الخاصة تقدم نوعية أفضل من التعليم، ولكن زوجها لا يستطيع إلحاق طفله بها، كما أنه لا يستطيع كذلك إلحاقه بالبرامج التكميلية (مجموعات التقوية) التي تزيد من فرصته في الالتحاق بكلية جيدة ومن ثم تحديد مستقبله. ومن المعروف أن حكومة "أوزاكا" المحلية تقدم مساعدات تعليمية قيمتها 500 دولار أميركي سنوياً لحوالى 28 في المئة من إجمالي التلاميذ في المدينة. وتبلغ هذه النسبة في طوكيو 25 في المئة.
وقد أدى التركيز الإعلامي على مسألة تزايد الفجوة بين اليابانيين إلى وضع "كويزومي" في موقع الدفاع؛ ففي كلمة له، ألقاها خلال الآونة الأخيرة، أمام البرلمان قال إنه "ليس هناك ما يعيب في وجود فوارق بين أفراد المجتمع.. وإن سياسة حكومته تقوم على مكافأة الموهوبين الذين يبذلون جهودا لتحسين مستواهم".
والحقيقة أن اليابان تحولت من مجتمع طبقي إلى حد كبير قبل الحرب العالمية الثانية، إلى مجتمع يوفر لأبنائه وظائف دائمة، ويقوم بترقية الموظفين العاملين في حكومته بناء على الأقدمية وليس الإنجاز.
وحتى منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي، نجحت الحكومة في استخدام سلطتها في احتواء الفروق الاجتماعية المتزايدة كما يقول السيد "ماساهيرو يامادا" أستاذ الاجتماع في جامعة "طوكيو جاكوجي" الذي كتب كتاباً حول هذا الموضوع تحت عنوان: "مجتمع الفروق في التوقعات".
وحتى عندما انفجرت "الفقاعة الاقتصادية" فإن الحكومة استمرت في الإنفاق بسخاء على مشروعات الأشغال العامة، التي ساعدت على استمرار الشركات التي استمرت بدورها في رعاية موظفيها. بيد أن الذي حدث في النهاية أن اليابان لم تعد لديها القدرة على مواصلة ممارسة هذا النوع من "الرأسمالية الأبوية". ويقول النقاد إنه على الرغم من أن بعض التغييرات التي أدخلها "كويزومي" كانت ضرورية، فإن هناك تغييرات أخرى تجاوزت الحد في تفضيل الأغنياء على حساب اليابانيين العاديين.
وحتى في الوقت الذي توقفت فيه الشركات اليابانية عن تقديم وظائف دائمة، وقامت بالاستغناء عن الموظفين، وربطت الترقية بالأداء، فإن "كويزومي" رفع القيود التي كانت تحول بين الشركات وبين توظيف موظفين مؤقتين يتلقون رواتب متدنية ويحظون بمزايا قليلة، وتضيق أمامهم الفرص للتحول إلى م