بعد الانتخابات الإيطالية الأخيرة, تنامى الشعور في أوروبا بعجز ثلاث من أكبر دولها, عن القيام بأهم التغييرات الاقتصادية التي يتفق الكثير من القادة السياسيين على أهميتها بالنسبة لتمكين القارة من استعادة معدلات نموها الاقتصادي. ويعود هذا العجز في المقام الأول, إلى ضعف الحكومات, وانقسام الجمهور الأوروبي على نفسه. وكما جاء في تعليق "وولفجانج نواك" –المحلل الاقتصادي المسؤول عن المنتدى العالمي للبنك الألماني- فإن من رأي كافة الأوروبيين تقريباً, أنه لا يمكن للأمور أن تستمر على ما هي عليه حالياً. وكان "نواك" يتحدث عن بعض الحالات الاقتصادية الأوروبية التي يقترب فيها معدل النمو السنوي من درجة الصفر، في حين ترتفع فيها معدلات العجز. كما يشير إلى مظاهر انعدام المرونة في أسواق العمل, وارتفاع معدلات البطالة, المصحوبة في المقابل, بارتفاع ميزانيات الرعاية الاجتماعية, التي يصعب الوفاء بالتزاماتها المتعاظمة, في أكثر من بلد أوروبي. وتعليقاً على ذلك قال السيد "نواك" إن الجميع يتطلعون إلى التغيير ويؤمنون بضرورته وإلحاحه. ولكن المشكلة أنه ما من أحد يبادر باتخاذ خطوة عملية إزاءه, ولذا يبقى الحال مراوحاً مكانه كما هو!
هذا ومن رأي الكثير من الخبراء, أن الذي يعرض القارة للخطر الفعلي, هو عجز دولها الكبرى الثلاث -ألمانيا وفرنسا وإيطاليا- عن تكييف اقتصاداتها مع ظروف عالم تجتاحه العولمة كل يوم. وبما أن القارة الأوروبية تتسم بارتفاع تكلفة العمل, في موازاة بطء وانخفاض معدل النمو السكاني, فإن من شأن ذلك أن يهدد بتعرضها للاضمحلال والتراجع بعيد المدى, ليس على الصعيد الاقتصادي وحده, وإنما يهدد بانحسار نفوذها السياسي أيضاً.
على أن هناك مجموعة من الأهداف المتفق عليها رسمياً –تعرف بأجندة ليزبون- كانت قد تعهدت كافة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بتحقيقها بحلول عام 2000, إدراكاً ووعياً منها لمخاطر التراجع الأوروبي بعيد المدى. وتتضمن تلك الأهداف والتعهدات, تحقيق متوسط معدل اقتصادي سنوي نسبته 3 في المئة, مقترناً بتوفير حوالي 20 مليون وظيفة جديدة, اعتماداً إلى حد كبير, على الابتكار عن طريق زيادة الاستثمار في قطاعي التكنولوجيا والتعليم.
ولكن المشكلة أن الدول الأوروبية الثلاث المذكورة, لم تقترب بعد من تنفيذ أي من تلك الأهداف. ويكمن إخفاقها في تضافر عدة عوامل مشتركة فيما بينها, منها تردد وعدم ثقة القيادات بنفسها, والانقسامات والصدوع السياسية العميقة فيما بينها, علاوة على تحفز أقسام كبيرة من المواطنين الأوروبيين إلى الثورة في وجه قياداتهم, ما أن تعرض عليهم هذه القيادات, أية برامج أو مشروعات للتغيير الاقتصادي.
ومن جانبه قال "تشارلس جرانت"، وهو مدير مركز الإصلاح الأوروبي في لندن: "يدرك جميع القادة الأوروبيين ما يجب عمله والقيام به, وهو ليس من علم الصواريخ في شيء. ذلك أن أهداف ليزبون, قد حددت بكل وضوح ما هو مطلوب القيام به. ولكن المشكلة كما رسم معالمها جان كلود جنكر, رئيس وزراء لوكسمبرج: فالجميع يعلم الإصلاحات الواجب القيام بها. غير أن المعضلة تكمن في عدم معرفة أحد من هؤلاء القادة, بكيفية القيام بها, ثم الفوز بالانتخابات العامة التي تليها! ومن هنا ينشأ التردد والخوف القيادي.
غير أنه ليس صحيحاً القول بقتامة الصورة الأوروبية كلها. كما ليس صحيحاً الاعتقاد بتماثل الدول الأوروبية الثلاث الكبرى المذكورة, في طبيعة وحجم المشكلات التي تعيق تقدمها على طريق الإصلاح الاقتصادي. فهناك عدة دول أخرى, منها أسبانيا وبريطانيا وإيرلندا, عرفت على امتداد عدة سنوات بقوة نموها الاقتصادي. أما الدول الإسكندنافية فقد تمكنت من خفض إنفاقها على ميزانيات برامجها الخاصة بالرعاية الاجتماعية, إلا أنها استطاعت المحافظة على نسبة كبيرة من الضمانات والحماية الاجتماعية لمواطنيها, بما يتماشى وحجم النمو الاقتصادي الكبير, الذي حققته خلال السنوات القليلة الماضية. بل تمكنت ألمانيا نفسها من تحقيق معدلات نمو, فاقت ما كان متوقعاً منها.
ولم يتحقق هذا إلا بفضل العامين الأخيرين اللذين أمضاهما المستشار الألماني السابق "جرهارد شرويدر" في منصبه, وذلك بإجرائه تخفيضات كبيرة على إعانات البطالة, مما كان له أثره المباشر على النمو الاقتصادي الذي تحقق مؤخراً. كما تتسم ألمانيا بقوانينها وتشريعاتها الجديدة التي تعطي أصحاب الأعمال حق فصل موظفيهم خلال العامين الأولين من التحاقهم بالعمل. ولكن بالمقارنة انظر ماذا حدث في فرنسا عندما أعلنت قيادتها عن قوانين شبيهة, يجري تطبيقها على العمال والموظفين الشباب دون سن السادسة والعشرين؟ فقد قامت عليها شوارعها ومواكب احتجاجها التي لم تهدأ بعد!
وفوق ذلك كله تتسم ألمانيا بين كافة الدول الأوروبية الثلاث المذكورة, بدعوة مستشارتها الجديدة "أنجيلا ميركل", لتنظيم أكبر حملة للتغييرات الاقتصادية الجريئة بما فيها إضعاف دور ونفوذ النقابات والاتحادات المهنية. لكن وكما لاحظ المحلل الاقت