ثمة حالة آخذة في الاتساع كماً ونوعاً ضمن أوساط كبيرة من النساء والرجال، وتقوم على ركيزتين اثنتين كُبريين، هما تعاظم الخراب المادي الاقتصادي للطبقات الاجتماعية المتوسطة والأخرى القابعة في قعْر السلم الاجتماعي أولاً، وتفكّك المجتمعات الراهنة ثانياً وتحوُّل أفرادها إلى جيوش من "المهمّشين" فاقِدي الفاعلية على التغيير المجتمعي والخاضعين لمعظم أنماط الإذلال والإقصاء، مع محاولات استفرادهم في صنع القرار ضمن حقول السلطة والثروة والثقافة والإعلام وغيره. وفي إطار تلك الحالة وعبر دراسات ميدانية في بعض البلدان العربية (وهي التي تهمنا في هذه المقالة) يتضح أن الركيزتين المشار إليهما يمكن تلمّسهما، خصوصاً، في الوسط النسائي، مما يُسهم -بدوره- في إنتاج مظاهر أخرى في هذا الوسط.
إن الوسط النسائي يملك خصوصية بالغة الحساسية والتعقيد خصوصاً في مجالي العمل الاجتماعي والقيم الأخلاقية. فسوق العمل على صعيد المرأة غالباً ما يكون مشروطاً باشتراطات خفيّة ومسكوتٍ عنها، إضافة -بطبيعة الحال- إلى اشتراطات السوق الاقتصادية والسياسية. ونلاحظ أن الاشتراطات الأولى يمكن أن تربك خريطة توزيع العمل في السوق المحلية، لأنها لا تستجيب تماماً لهذه الخريطة، وذلك لأنها تخترق الاشتراطات السوقية الاقتصادية والسياسية. ومن شأن هذا أن يعني أن المرأة حين تستلم موقعاً في سوق العمل، فإن ذلك لا يأتي دائماً وفق الاستحقاقات، التي تطرح نفسها على المرأة الطامحة إلى الحرية والاستقلالية الاقتصادية النسبية وتحقيق الذات. وبتعبير آخر، يمكن ملاحظة أن الجسد النسائي يؤسس هنا لنوع من المقايضة بينه وبين العمل الفعلي أو الوهمي.
وإذا خصصنا هذه المعطيات في الحقل العربي أو في معظمه، فربما وجدنا أنفسنا أمام لوحةٍ لونُ السّواد فيها ليس ضئيلاً. أما العوامل الكامنة وراء ذلك "السواد" فهي لاشك كثيرة ومتشابكة وذات مرجعيات متعددة. لكن في هذا السياق، الذي نحن بصدده الآن، يكفي أن نشير إلى واقعتين اثنتين: أما أولاهما فتتمثل في أن الكثير من مجالس البرلمان العربية، ومعها السلطات التنفيذية المعنية، ترفع أصواتها، معلنة أن عددَ كذا أو كذا من النساء يشغلن هذه المجالس، وأن هذا العدد في ارتفاع مستمر فيها. وتظهر هذه الواقعة بشيء أو بكثير من المرارة السوداء والاستفزازية خصوصاً في تلك "المجالس البرلمانية"، التي يمثل وجودُ النساء عضوات فيها صيغة من صيغ الزينة والدعاية الساذجة. ويحدث ذلك يداً بيد مع التأكيد على وجود اتحادات نسائية ملحقة بالدولة هَمُّ العضوات اللواتي يوجدن فيها هو الاحتفاظ بمناصبهن بالدرجة الأولى.
أما الواقعة الثانية فتفصح عن نفسها بصيغ مأساوية في حياة نساء العالم العربي. فهنالك ثلاثة حقول تبرز فيها هذه الصيغ، هي عمل المرأة (وقد أظهرنا إشكالية هذه الصيغة وصعوبة تحقيقها بسبب اختلاط البُعد الاقتصادي السّوقي فيها بالبُعد المتصل بمنظومة القيم الأخلاقية الخاصة بالمرأة)، ونسبةُ الأميّة المرتفعة في الوسط النسائي والتي ربما ترتفع الآن، أكثر فأكثر، مع تعاظم الاضطراب والقلق وتساقط القيم، وأخيراً وليس آخراً، يبرز الحقل الثالث -وهو ذو دلالة خاصة على صعيد العلاقة بين الرجال والنساء، وكذلك بين هؤلاء وبين الأسرة بمثابتها كياناً اجتماعياً تأسيسياً. ها هنا، نلاحظ أن العلاقة المذكورة تتحدد خصوصاً وبنسبةٍ تصل إلى 50% بأسلوب العنف والقسر.
إن أسلوب العنف والقسر المذكور يُفصح عن نفسه بكيفية محددة، هي ممارسة ضرب النساء من قبل الرجال. وقد ذُكر ذلك في دراسة تمت في مصر وقامت على طريقة مسح ديموغرافي جرى نشره في وقت قريب سابق. ويأتي فيه أن 43 إلى 46 في المئة من النساء المتزوجات كنَّ يتعرضن للضرب من قبل أزواجهن عدة مرات في الأسبوع. وكان ذلك قاسياً بحيث إن 39% منهن كنّ بحاجة للاستشفاء والرعاية. لقد أصبح الاحتفال بـ"يوم المرأة العالمي" الذي جاء هذه السنة تحت شعار "المرأة وصنع القرار"، بمثابة ضحك على اللحى، ولفٍ على المسألة في معظم العالم العربي، بل في مناطق عظمى من العالم.