تعرفنا في المقالات السابقة على أهم الأفكار التي راجت في الفكر الإسلامي حول النبوة وحقيقتها. بدأنا بالمرويات التي تشرح حدث الوحي وردود فعل خصوم الدعوة المحمدية إزاءه، ثم انتقلنا إلى مفهوم الوحي وحقيقة النبوة لدى الفرق الكلامية الرئيسة التي اهتمت بالموضوع: فوق أهل السنة، لنركز في مقابل ذلك على آراء الشيعة الإمامية، الشيء الذي قادنا إلى طرح مسألة "النبوة والولاية" عند هؤلاء وعند المتصوفة. وكنا قد عرجنا على نظرية الفلسفة الفيضية في النبوة وعند الفارابي خاصة. وسنخصص المقال المقبل لابن رشد لنختم به هذا الموضوع. أما في هذا المقال فسنقوم بإطلالة على تصور كل من اليهودية والمسيحية للنبوة مع المقارنة مع التصور الإسلامي؛ وقد فضلنا القيام بهذه الإطالة هنا، وليس قبل ولا بعد، لأن السياق يقتضي ذلك كما سيلاحظ القارئ بنفسه.
فعلاً، يجدر بنا –في وقت يكثر فيه الحديث عن حوار الأديان- أن نلتفت إلى الديانتين الأخريين –اليهودية والمسيحية- اللتين يرتبط الإسلام بهما لنسألهما عن تصور كل منهما للوحي والنبوة، خصوصاً ونبي الإسلام ينتظم في سلسلة أنبيائهما بوصفه خاتم النبيين والمرسلين.
إذا نحن تتبعنا مسار الخطاب في التوراة، وهو مسار لم يشيد مرة واحدة بل تكون على مدى ألف وستمائة سنة، وجدنا أن مفهوم الوحي قد تطور في الفكر اليهودي عبر مرحلتين رئيسيتين: الأولى تمتد من قصة بداية الخلق إلى أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام. أما الثانية فتمتد من إبراهيم الخليل إلى ظهور عيسى عليه السلام.
في المرحلة الأولى كان "الوحي"، بمعنى الكشف والتجلي Revelation، يعني خروج الله –حسب الرؤية التوراتية- من وحدته التي كان عليها منذ الأزل. في البدء –الذي لا بداية له- كان الله ولا شيء معه. ثم اقتضت مشيئته أن يكشف عن ذاته: "أراد أن يكون مرئيا ومسموعا ومعروفا"، فخلق العالم والزمان، وخلق الإنسان. تجلى الله للإنسان وحصل اللقاء بينهما كما في قصة آدم. ومن آدم خلق الله شعوبا وأمما، وتتابعت تجلياته لمخلوقاته في أشكال مختلفة ومناسبات متعددة ولكن دون أن يستغرقه أو يحتويه أو يبتلعه حادث أو مخلوق، بل بقي دائما الإله الوحيد. وبوصفه كذلك، أي الإله الوحيد، كشف عن ذاته لشيوخ الشعب المختار لديه، "الشعب الذي ظل ينتظره"، فصار من الواجب أن ينسب إلى شيوخ هذا الشعب، فيدعى: "إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب". ولما تغير اسم يعقوب (بن إسحق بن إبراهيم) فأصبح يدعى "إسرائيل" -ومعناه: "يجاهد مع الله"- صارت ذريته تحمل اسمه: بني إسرائيل، وصار الإله: "إله بني إسرائيل".
ذلك هو اللقاء الأول، لقاء إله بني إسرائيل مع جدهم أبرام ومعناه: الأب الرفيع. في هذا اللقاء الذي حصل على مستوى "الرؤيا" كان الميثاق وكان الوعد، وفيه غير الإله اسم أبرام إلى إبراهيم ومعناه: أب لجمهور.
أما اللقاء الثاني فقد حصل بين بني إسرائيل وإلَههم في سيناء حين "كلم الله موسى تكليما" –حسب عبارة القرآن. كان لقاءً قال عنه كل إسرائيلي إن الله قد انكشف وتجلى وإنه رآه وجها لوجه، "وبصورة أوضح مما سيراه فيما بعد كبار الأنبياء".
ذلك هو الوحي في معناه الأول في اليهودية، الوحي بمعنى أن الله هو الذي كشف عن ذاته وتجلى لـ"شعبه المختار". وبعد هذا الكشف أخذ الوحي يكتسي مظهرا آخر، هو الإلهام Inspiration: أرسل الله الأنبياء إلى الشعب المختار وكان هؤلاء يتلقون الكلمة منه إما بواسطة الرؤيا وإما بصوت وإما بالنفث في داخل النفس. هذا النمط من الوحي يتولى تعبيره كبار رجال الدين المختصين في تعبير الرؤيا.
لم يكن هناك في تصور بني إسرائيل خاتم للنبوة، بل بقي الباب مفتوحا لانتظار مجيء نبي عظيم كموسى، يجمع شتات الشعب اليهودي ويعيد إليه أمجاده "فترجع القدس له وأرض كنعان كلها، وتكون له الكلمة العليا على العالمين". وانتظار هذا المشيّح (المسيح، المهدي المنتظر) هو ما يملأ زمان "شعب الله المختار"، وهو ما يعطي للتاريخ معنى لديه. وإلى أن يأتي سيبقى الوحي الذي تلقاه الأنبياء على صورة رؤيا موضوعا للتأويل المستمر، للكشف عن معناه الباطني العميق الذي يعطي لكل حادثة معناها ولكل مرحلة دلالتها.
عندما ظهر عيسى بن مريم وسط اليهود بوصفه ذلك المشيَّح المنتظر آمنت به طائفة ورفضه الباقي. ولما رأى دعوته تلاقي من اليهود العداء والمحاربة كلف –فيما قيل- أحد أتباعه شاول الذي تسمى باسم بولس الرسول، وكان قبل اعتناقه المسيحية من أشد الناس قساوة على أتباعها، كلفه بنشر الدعوة خارج المجتمع اليهودي، أي لدى شعوب الإمبراطورية البيزنطية. وقد قام القديس بولس بهذه المهمة فجادل "الوثنيين" وأتباع الفلسفة اليونانية فتأثر بفكرهم، فشيد هو ومن سار على دربه من الحواريين نظرية جديدة في الوحي تقوم على "التثليث"، النظرية التي ستصبح المذهب الرسمي للمسيحية. أما الآراء الأخرى بما في ذلك تلك المتمسكة بما كان عليه الحال زمن عيسى، فستصبح هرطقة وابتداعا وضلالا.
في اليهودية كان الوحي عبارة عن خروج الله عن أحديته