يقوم مسلم انتحاري بتفجير نفسه وسط مئات المصلين، فيهلكها ويهلك معه عشرات المسلمين، ممن يعتقد بكفرهم وضلالهم عن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يحسب أنه يبعث شهيداً فيكون نصيبه الجنة ونعيمها، فيشفع في 70 من أهله ويزف إلى 70 حورية ويحظى برفقة المصطفى عليه الصلاة والسلام، أما قتلاه "فإلى جهنم وساءت مصيراً". أزعم أن هذا كله كفر وإلحاد، بل إنه إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أفدح وأعظم من اثني عشر رسماً دانمركياً ساخراً، أغضبت علماء الأمة فحركوا الشارع وأشعلوه إنكاراً وكراهية، ولو كان قرار الحرب في يدهم لصرخ واحدهم داعياً إلى جهاد لا يتوقف إلا أمام بلدية كوبنهاجن.
لقد أغضبتنا الرسوم الدانمركية، وغضبنا يوم حرق المسجد الأقصى ويوم قام يهودي متطرف بقتل المصلين سجّداً في الحرم الإبراهيمي بالخليل، ولكننا لم نغضب نفس تلك الغضبة الأربعاء الماضي عندما تسلل مسلم، هكذا بدا، وسط 50 ألف مسلم آخر، احتشدوا في حديقة عامة وسط كبرى المدن الباكستانية للاحتفال بالمولد النبوي، بل إنه نجح في صعود المنصة التي اجتمع عليها عدد من الشيوخ والعلماء، لابد أنه نجح في كسب ثقة المنظمين لهذا التجمع، ولعله انكفأ يقبل يد مولانا عباس قادري زعيم جماعة "تحريك السنة" البريلوية التي دعت لذلك الاحتفال، والذي كان يفترض أن يبدأ بعد صلاة المغرب. وهكذا اصطف الانتحاري لتأدية الصلاة مع كبار المدعوين وفجأة انفجر قاتلا نفسه ومن حوله، وبعد عشر دقائق حصل انفجار آخر، الحصيلة 57 قتيلا وأكثر من 100 جريح. من بين القتلى زعيم الجماعة وعدد كبير من قادتها، "عملية ناجحة" بكل المقاييس إذا كان هدفها هو تصفية قيادة "البريلوية"، ولكنك لن تراها كذلك، إلا إذا كنت تكفيرياً تعتقد أنك تتقرَّب إلى الله عز وجل بدماء "المشركين"، ولكنّ جلنا كمسلمين لا نعتقد بذلك ولله الحمد.
هل كون المستهدفين هم "البريلويون" الذين أجزم بأن معظم القراء لم يسمعوا بهم من قبل بالرغم أن كثيراً من الباكستانيين والهنود الذين يعيشون بيننا في الخليج هم من أتباع هذه الطائفة، هو سبب هذا الصمت المخزي؟ هل هو نفس سبب الصمت والعجز عن التحرك يوم فجر مرقد إمامي الشيعة في سامراء، ومن قبله ومن بعده عشرات العمليات الانتحارية، في مساجد الشيعة وتجمعاتهم في العراق كل يوم؟ هل غلب علينا الخلاف الطائفي وتحول إلى حقد وكراهية، انتقلت من العامة والجهلاء إلى عقلائنا وكبرائنا؟ لماذا لا ندرك أن "الدم" هو الخط الأحمر الذي تتوقف عنده كل الاختلافات العقدية والمذهبية؟ لنختلف كيفما شئنا، ولنؤلف الكتب والرسائل والردود المفحمة وغير المفحمة ضد بعضنا بعضاً، ولكن لنتوقف عند الدم فالأحاديث المحرِّمة لوقوع المسلم في دم المسلم غير مختلف عليها على الأقل.
أعرف شخصيا "البريلوية"، ورأيت في باكستان احتفالاتهم المحزنة حول قبر "ولي" مزعوم يسمونه "إمام بري" من طواف بالقبر وذبح وتمرغ في التراب، ما جعلني أشمئز من تصرفاتهم، ولكن من الخطأ تعميم ذلك على كل أتباع هذه الطائفة الصوفية واسعة الانتشار في القارة الهندية. والخطأ الأكبر أن يقر أحد أو يسكت على إهدار دمهم مثلما حصل الأربعاء الماضي.
إننا في وسط أزمة، وصورة ديننا في أزمة، ما لم يقف العقلاء بشجاعة في وجه طغيان العنف على قوة الحجة بالدليل وقول الله والرسول عليه الصلاة والسلام.
لنستعد توالي الأحداث علينا كي نستطيع أن نرسم الخط البياني الذي نسير إليه، لنبدأ على الأقل بعملية اختطاف وزير الأوقاف المصري الشيخ الذهبي ومن ثم قتله على يد من سموا أنفسهم "جماعة المسلمين" في أوائل السبعينيات ولنبحث في خلفيتهم الفكرية، ونستمر في البحث فنتوقف عند ظهور تيارات التكفير، واستباحة دم المسلم، لنتأمل رد فعل العقلاء البارد على اغتيال الكاتب المصري فرج فودة على يد شاب أغضبته كتابات المغدور في منتصف الثمانينيات، وهل كان دفاع شيوخ أفاضل عن قاتله مبرراً أم كان سقطة فتحت علينا باب فتنة؟ واستمرت دائرة العنف وكبرت، واستمر معها الإنكار والتعامل معها كأنها مجرد "خلاف سياسي"، ومثلما حصل أمس في الجزائر يحصل اليوم في العراق. انشغل العلماء هناك بالإنكار على سبب العنف والتكفير وكان في الجزائر حماقة إلغاء أول وآخر انتخابات تشريعية نزيهة. ننشغل اليوم بالإنكار على حماقة الاحتلال في العراق ونهمل الإنكار على التكفير والقتل الطائفي. والحل الأسهل دوما عندنا هو اتهام الآخر "لابد أن هناك أصابع صهيونية أميركية خلف هذا التفجير أو ذاك".
ولكن دائرة الدم لا تتوقف، ها هي تتسع من دائرة السُّنة والشيعة في العراق إلى دائرة السُّنة والسُّنة في باكستان، ما لم يكن هناك فعل حازم وجريء وصريح من علماء الأمة في وجه دعاة التكفير، يسمي الأشياء بأسمائها، يتوجه نحو فتنة التكفير وليس إلى أسباب الغضب التي يتعلق بها التكفيريون. وما لم يحصل ذلك لن تخمد هذه الفتنة، بل سيصل شرها إلينا أجمعين، وستبلغ شفرتها رقاب العلماء أنفسهم، وتجمعات أهل السنة والجماعة تفجيراً