يراهن كثير من المثقفين العرب، على تأثير اتصال الثقافة العربية بالضفاف الغربية، وإن كنا رأينا بالفعل في مقالات سابقة مدى أثر حركة الترجمة من الفلسفة اليونانية فترة ازدهار الدولة العربية الإسلامية الكبرى، ثم رأينا أثر الثقافة الأوروبية التنويرية الجديدة بمشاركة "السان سيمونيين" الفرنسيين، في مشروع النهضة الوطني بمصر في دولة محمد علي الكبير في القرن التاسع عشر. وقد ربطنا دائماً -بالملاحظة المجردة- عملية الاتصال وتبادل التأثير الحقيقي بوجود المشروع الذاتي أو الوطني للمنطقة قديماً وحديثاً. وإذا كان ذلك يتم بوضوح في مجال الثقافة السياسية وناتجها السياسي أو الاقتصادي في العالم، فقد كان علينا أن نتأمل الأثر الثقافي والاجتماعي أيضاً، لنرى أن اتجاه العرب إلى مناطق وبلدان الجنوب في ساحة الجوار الواسعة وفي فترات تاريخية معينة، كاد يكون أعمق وأغنى تأثيراً، وأن غياب حضور "الجنوب" ارتبط بفترات التدهور وليس بسبب محاولة النهوض وفق النمط الغربي وحده. ويعتبر مثال الصلة بالجوار الآسيوي فضلاً عن الإفريقي، نموذجاً لمعنى حضور أو غياب "الآخر" الجنوبي. ولعل تناول العلاقة بإبداع "الضفاف الأخرى" الأفريقية، هو النموذج الأفضل عن الفارق بين الحديث الخطابي عن أشكال العلاقات العربية- الأفريقية أو التعاون العربي- الأفريقي، وبين افتقادنا للبعد الثقافي والاجتماعي، حتى بتنا نتهم مع أي حادث بسيط بالعنصرية أو الجهل بالآخر... إلخ، في مثل حادث مواجهة اللاجئين السودانيين بالقاهرة مؤخراً. لكن ظهور ترجمات عربية وأعمال إبداعية من "الضفاف الأخرى" الأفريقية من عواصمنا مؤخراً، مثل كتاب زين العابدين فؤاد عن "شعر الضفاف الأخرى" الأفريقية (القاهرة 2005)، جعلنا نتراجع في إطلاق الحكم نسبياً، كما أن ظهور ترجمة عربية أيضاً لديوان الشعر الهندي الحديث بعنوان "أسباب للانتماء" من ترجمة الشاعرة الإماراتية "ظبية خميس" (الدوحة 2005) يجعلنا أكثر تفاؤلاً، وقدرة على التراجع! ذلك أننا نرى أن الاقتراب بالشعر بوجه خاص يعتبر أرقى أشكال الاقتراب الثقافي.
ولست هنا بحاجة للدراسة التقليدية عن تاريخ التقاء الشعوب وتفاعلها في الحرب والسلام، أو في الهجرات أو في الاقتصاد، لأننا هنا معنيين بالآثار الثقافية وخاصة الحديث منها. لن نرجع لطريق الحرير، أو زحف المغول والتتار، أو للهجرات العربية في المحيط الهندي وشرق أفريقيا، والهجرات الآسيوية إلى الخليج، لكننا يمكن أن نذكر بشكل أفضل هذا التلامس الفعال -قبل الشعر- عبر الثقافة السياسية بل والتطورات السياسية القريبة.
وقد لا يذكر الكثيرون منا تأثيرات "الغاندية" وفلسفة اللاعنف أو "الساتيا جراها" كما ارتبطت بالنموذج الغاندي، إلا أنها "الظاهرة الهندية" التي اتسع تأثيرها عالمياً مقابل الثورات المسلحة التي عرفتها الصين أو الهند الصينية أو في فيتنام وغيرها. والنموذجان جديران بالدراسة بالطبع لتأثيرهما البالغ في تاريخ العالم، وليس لأثرهما في الاتصال بشعوبنا العربية وحدها. لكن دعونا نتوقف عند الغاندية كثقافة سياسية، وقد كانت ذات أثر في الحركة الديمقراطية بمصر "حزب الوفد" وفي الكفاح السياسي السلمي في تونس، بل وفي السودان... إلخ.
ولم يكن الأثر الآسيوي في المرحلة السابقة على الاستقلال وحدها، لأن جمال عبدالناصر نفسه أعرب عن "اكتشاف آسيا" بعد حضوره مؤتمر باندونج وصداقته مع نهرو، بقدرما اقترب من "شواين لاي". وفي دراساتنا الأفريقية تعيش في ذاكرة معظم الباحثين العرب، أعمال نخبة من الباحثين البارزين من ذوي الأصول الآسيوية، أمثال عيسى شيفجي (تنزانيا) ومحمود ممداني (أوغندا) وغيرهما الكثير.
لذلك فعندما تلقيت ترجمة الشاعرة "ظبية خميس" للديوان الآسيوي "أسباب للانتماء"، من تحرير الشاعر الهندي البارز "رانجيت هوسكوتي" الذي يضم الحديث عن "أربعة عشر شاعراً هندياً معاصرا"، كما جاء على غلافه، أخذتني فرحة غريبة، غرابة الغياب الذي نعانيه في وسائل اتصالنا الثقافي بالضفاف الأخرى وخاصة الجنوبية. وقد تكون أخذتني مباشرة، لفتة أن الكتاب عن الشعر المعاصر في بلد غني بالثقافة، وفوق هذا وذاك أنه حول "أسباب للانتماء"!
قلت إن هذا الاختيار لا يأتي بالتأكيد إلا من شاعرة مثل "ظبية خميس" لها هذا الإنتاج الشعري المبدع والمتعدد، والحس العربي المتيقن، والحرص الدؤوب والمسؤول على أن تقدم للثقافة العربية جديداً، سواء في عناوينها الخاصة خلال عديد من الدواوين: "روح الشاعرة، المشي في أحلام الرومانسية، شغف... إلخ"..."، أو ترجمتها لإضافات من غير الشعر، قريبة منه مثل: "تعويذة الحسي" لديفيد أبرام، و"طفل الفجر" لجوتاما شوبرا. وها هو إذاً ديوان الشعر الهندي الحديث الذي يبحث شعراؤه عن "الانتماء" في خيمة الشعر نفسه لا خارجه، شعر بالإنجليزية أساساً، وفي خيمة بعيدة إلى حد ما عن خيمة التراث والتقاليد، لكنه يعلن أنه في دائرة الانتماء.
إن الترجمة السيالة لتقديمات الشعراء ونصوص الشعر نفسه، تجعل هذا الكتا