منذ اللحظات الأولى لفوز حركة "حماس" بالأغلبية البرلمانية، كنت أتوقع أن تنجح حكومتها في التوفيق بين ثوابتها الأيديولوجية الواردة في ميثاق الحركة، وبين ضرورات السياسة العملية اللازمة للاندماج في العملية السياسية السلمية، ولتحسين الظروف الحياتية للمجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية. شواهد عديدة توفرت على لسان خالد مشعل ثم محمود الزهار ثم إسماعيل هنية، تشير إلى إبداء المرونة السياسية سواء في الإشارة إلى التعامل مع اتفاقات "أوسلو" بواقعية، أو إلى التعامل مع السلطات الإسرائيلية في أمور الحياة اليومية.
من الواضح أن هذه الدرجة من المرونة لم تقابل بمثلها من القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فزاد الضغط على حكومة "حماس" وظهرت نتائج الحصار الاقتصادي الدولي في قسمات الحياة اليومية وقضية رواتب الموظفين ورجال الأمن. المشهد الراهن يشير إلى أزمة في الواقع الفلسطيني، رجال وشباب مسلحون وملثمون من رجال الأمن يقتحمون مكاتب الحكومة ويعقدون مؤتمرات صحفية يعلنون فيها مطالب تتصل بترقيات سابقة حصلوا عليها في ظل حكومة "فتح" ويرفضون أن ينتزعها منهم أحد، ومجموعات أخرى ملثمة أيضاً تعقد أول أمس مؤتمراً صحفياً ترد فيه على خطاب إسماعيل هنية على نحو يصعِّد الإحساس بالأزمة.
في خطابه قال هنية إن الشعب الفلسطيني مستعد للعيش على الزيت والزعتر، ولكنه لن يخضع للضغوط الإسرائيلية والدولية التي تستهدف انتزاع الاعتراف بدولة إسرائيل من حكومة "حماس" بدون مقابل سياسي. المتحدثون باسم المجموعة الملثمة الفلسطينية أجابوا على هذا القول بقول آخر، قالوا إنهم يوافقون على الصمود والعيش على الزيت والزعتر بشرط أن يكون الجميع في هذا سواسية، لا أن يصرف البعض رواتبهم ويميزوا في حين يحرم الآخرون. البعد الاقتصادي والمعاشي في الأزمة يدفع تحركات مقلقة، ففي نفس السياق يرى بعض المتحدثين باسم "حماس" أن هناك عناصر في حركة "فتح" تحاول تأزيم الوضع الداخلي وتصعيبه على حكومة "حماس"، بهدف اعتصارها وإعلان إفلاسها وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانتخابات. وهذه تفسيرات تعني أننا أمام مشكلة ذات بعدين: البعد الأول يمثله الضغط الخارجي، والبعد الثاني يمثله ضغط من الدخل. والسؤال هنا يقول: ما هو المخرج المتاح أمام حكومة "حماس" للإفلات من فكّي الكماشة المطبقين من الداخل والخارج؟
مجموعة السفراء العرب المعتمدين في الجامعة العربية، استقبلوا أول أمس في مقر الجامعة بالقاهرة، الدكتور محمود الزهار، وزير الخارجية الفلسطيني، وألقوا إليه بطوق النجاة في الموضوع السياسي. فقد اقترحوا عليه أن تعترف حكومة "حماس" بمشروع السلام العربي الذي اعتمدته قمة بيروت منذ أربع سنوات، وهو المشروع الذي أبدت فيه الدول العربية استعدادها للاعتراف بإسرائيل مقابل الانسحاب من الأرض المحتلة عام 1967. هذا في تقديري طوق نجاة حقيقي وفعال، فهو من ناحية يمكن المجموعة العربية من المطالبة بإنهاء الحصار الاقتصادي على الحكومة الفلسطينية، وفي ذات الوقت يسمح لـ"حماس" بالاحتفاظ بورقة الاعتراف بإسرائيل في يدها مع التلويح الكافي بالاستعداد لاستخدامها بمقابل سياسي محدد.
لقد وعد الزهار بأن يحمل طلب مجموعة السفراء العرب إلى حكومته، وفي نفس الوقت أطلق موقفاً في جملة عندما قال... لن نقبل استخدام أمعاء الفلسطينيين لتحقيق أهداف سياسية. وهو محق في أنه لا يجب على العالم أن يطالب الفلسطينيين أو حكومتهم بالاعتراف السياسي بإسرائيل مقابل حفنة قمح وشيكات بالرواتب. المطلوب أن يعترف الإسرائيليون بالمبادرة العربية ومطلبها السياسي في الانسحاب من الأرض المحتلة مقابل الاعتراف من "حماس".
نرجو أن ينجح المقترح العربي في تفريج أزمة الواقع الفلسطيني.