"ادفعوا الرواتب أو عودوا إلى منازلكم" بهذه العبارات خرج العشرات من رجال الأمن الفلسطينيين في إحدى أكبر التظاهرات في شوارع غزة مقتحمين مبنى حكومياً فلسطينياً متوعدين الحكومة الفلسطينية التي تتزعمها حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" بتصاعد الاحتجاجات ما لم تدفع الرواتب المستحقة لهم بعدما تأخرت حكومة "حماس" أسبوعين عن دفع رواتب أكثر من 140 ألف موظف. في المقابل تؤكد "حماس" أنها ورثت سلطة خزائنها خاوية ومثقلة بديون تقدر بأكثر من 1.3 مليار دولار، ووسط تجاذب سياسي بين "حماس" الداخلة للسلطة وحركة "فتح" الخارجة منها، ومن التقافز في لعبة تبادل الأدوار السياسية بين كراسي السلطة وكراسي المعارضة بدأت مرحلة "حماس" في ممارسة العمل السياسي فحاولت اللجوء إلى "فتح" مستعينة بتجربتها الطويلة وخبرة أعضائها في السلطة، لكن "فتح" انسحبت إلى كراسي المعارضة تاركة "حماس" تتلمس طريقها السياسي. وبدا منذ أن تحدثت الأرقام في الانتخابات الفلسطينية أن طريق "حماس" لن يكن مزروعاً بالورود، فمع كل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي يجب أن تعالجها "حماس" كحكومة فإنها تواجه مشاكل أكثر تعقيداً مع إسرائيل كالمعابر وخطط الانسحاب الإسرائيلي أحادية الجانب بهدف ترسيم حدود نهائية للدولة العبرية مما يعني استمرار سياسات الأمر الواقع، ومع كل تعقيدات التعاطي مع حكومة غالبية قادتها على قائمة الاغتيالات الإسرائيلية المعلنة تضاف مشاكل العلاقات مع المجتمع الدولي والشروط المسبقة التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للتعاطي مع حكومة "حماس"، بما في ذلك سياسة الحصار الاقتصادي والتجويع.
تتزامن ضغوط الداخل الفلسطيني مع ضغوطات الخارج، والتساؤلات هنا: لمن المصلحة في إفشال حكومة "حماس" حتى قبل أن تبدأ فعليا؟ ولمصلحة من يتم إضعاف الحكومة الفلسطينية؟ وهل يمكن أن يجر الحصار الاقتصادي "حماس" لتقديم تنازلات سياسية قد تفسر بأنها لمصلحة إسرائيل؟ وأخيرا إذا كانت مواقف "حماس" هي من أوصلها إلى السلطة ألا يعتبر التغيير خيانة للناخب الفلسطيني الذي أوصلها للسلطة في المقام الأول، استنادا إلى مواقفها وبرامجها الانتخابية؟ لقد وجدت "حماس" نفسها في مواجهة تساؤلات كبرى ليس على المستوى النظري، بل على المستوى العملي، ولعل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الحكومة الفلسطينية هي أول اختبار حقيقي لـ"حماس" ولاشك أن طريقة التعاطي مع هذه الأزمة ستؤثر على التعاطي مع كافة الملفات الأخرى بكل تعقيداتها. الأزمة الاقتصادية الناتجة عن خواء الخزانة الفلسطينية والحاجة الماسة لدفع الرواتب المتأخرة وتسيير أمور الحكومة تطرح على الطاولة الفلسطينية عدة خيارات: أولها خضوع السلطة للابتزاز السياسي الدولي والأميركي بالأساس، والرضوخ للمطالب الدولية بالاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف وبالتالي عودة المساعدات الدولية إلى الخزينة الفلسطينية. ثانيها طلب المساعدات العاجلة من الدول العربية ومن جامعة الدول العربية، وقد تعهدت بعض الحكومات العربية بتقديم المساعدات العاجلة للسلطة، كما أن الأمين العام لجامعة الدول العربية قد أعلن عن فتح حساب بالقاهرة لجمع تبرعات للفلسطينيين. ثالثها، استمرار التجاذبات الداخلية بين السلطة و"فتح" وتصعيد الأوضاع وصولا للاقتتال الداخلي وبالتالي فشل حكومة "حماس" في الاستمرار بالسلطة وصولا إلى انهيار السلطة الفلسطينية وهو أكثر السيناريوهات تشاؤماً. في الحقيقة لا تملك "حماس" ترف البدائل فالضغوط الاقتصادية أفرغت الخزينة الفلسطينية، وإسرائيل واقعياً تسيطر على النظام المصرفي الفلسطيني وتتحكم بالتالي في تحويل الأموال للسلطة الفلسطينية، فبيدها عملياً تجميد أرصدة السلطة الفلسطينية ومنع تحويل رواتب الـ140 ألف موظف حتى في حال توفر المبالغ المطلوبة. وبين رحى الضغوط الاقتصادية الداخلية والسياسات الإسرائيلية المتعنتة تقل خيارات حكومة "حماس" وتتحجم قدراتها على الفعل.
التضامن الفلسطيني الداخلي حاجة لا ترف، والتنسيق بين الحكومة والرئيس الفلسطيني "أبو مازن" أكثر من مطلب، فالحفاظ على اللحمة الداخلية الفلسطينية مطلب ملح على الإخوة في فلسطين من جميع التيارات السياسية أن يضعوه نصب أعينهم. فالرئيس الفلسطيني الأكثر قبولا دوليا بإمكان الحكومة أن تلجأ إليه لوضع خطة عمل مشترك بالتوافق مع التيارات الفلسطينية لمواجهة الكارثة الاقتصادية التي لن تعصف فقط بحكومة "حماس" لكن بإمكانها اقتلاع البيت الفلسطيني كاملا. ولعل أولى الخطوات المطلوبة وحدة المواقف بين الحكومة والرئيس الفلسطيني، والتأكيد على التعاون بدل تضارب الاختصاصات خاصة في السيطرة على أجهزة الأمن. وفي المقابل على "حماس" أن توائم بين طرحها السياسي الذي أوصلها لمقاعد السلطة، والواقعية السياسية التي تفترض تنازلات سياسية تحافظ بها على مصالح الناخب الفلسطيني. فالمطالب الدولية المتمثلة بنبذ العنف والاعتراف بإسرائيل تستطيع "حماس" بالحنكة السياسية والحكمة أن تواز