الأمراض السرطانية تقتل، لكن لا أحد منها يقتل بنفس الكفاءة التي يقتل بها سرطان الرئة. فعلى الرغم من أن سرطان الرئة ليس أكثر الأورام الخبيثة انتشاراً، إلا أنه يحتل رأس قائمة الأمراض السرطانية الأكثر فتكاً، حيث يتسبب في وفاة قرابة الثلاثة ملايين شخص حول العالم سنوياً. ويأتي هذا الرقم الهائل نتيجة أن شخصاً واحداً فقط من كل عشرة ممن يصابون بسرطان الرئة، يظل على قيد الحياة بعد خمس سنوات من التشخيص، بينما تتوفى الغالبية في غضون سنة أو شهور معدودة. ولا داعي هنا للتذكير بأن الأبحاث المتوالية تؤكد الواحد تلو الآخر، أن التدخين هو أهم الأسباب المؤدية للإصابة بسرطان الرئة. وهو ما تؤكده الإحصائيات، والتي تظهر بدورها أن 90% من الرجال المصابين بسرطان الرئة، و80% من النساء المصابات بسرطان الرئة، هم من المدخنين. وللأسف، في الوقت الذي تشهد فيه الدول الغربية انخفاضاً نسبياً في أعداد المدخنين، تقع حالياً زيادة مستمرة في أعداد المدخنين -وبالتالي في حالات الإصابة بسرطان الرئة- بين شعوب دول العالمي الثاني والثالث. ففي الصين مثلاً، يتوقع لسرطان الرئة أن يتقدم عدة درجات على قائمة الأمراض الأكثر فتكاً بالصينيين، بسبب الشعبية الهائلة للتدخين، والمترافقة بانخفاض ملحوظ في الوفيات الناتجة عن الأمراض المعدية. ويفسر البعض ظاهرة ارتفاع أعداد المدخنين في دول العالم الثاني والثالث بأنها نتيجة سياسات شركات صناعة التبغ المتمثلة في تخصيص ميزانيات هائلة للدعاية والإعلان في تلك الدول، لما تتميز به من نمو سكاني هائل، وخصوصاً في الفئات العمرية الشبابية، مما يجعل شعوب تلك الدول سوقاً مستقبلياً واعداً لصناعة التبغ.
ولكن إذا ما كنا قد توصلنا إلى تفسير للانتشار الواسع لسرطان الرئة، فما السبب في نسبة الوفيات الناتجة عنه، والتي تتخطى مجموع الوفيات الناتجة عن عدة أنواع من الأمراض السرطانية الأخرى؟ إجابة هذا السؤال تقع في عدة أجزاء أو أسباب. السبب الأول يتمثل في أن معظم حالات سرطان الرئة يتم تشخيصها في مراحل متأخرة من المرض. فبسبب طبيعة التركيب التشريحي للرئة، لا تظهر غالباً أعراض إصابتها بالورم الخبيث، إلا بعد أن يكون المرض قد استفحل فيها، وربما حتى انتشر إلى أعضاء أخرى، مثل العظام أو المخ أو الكبد. ورغم وجود عدة محاولات للكشف عن سرطان الرئة، باستخدام الأشعة العادية على الصدر أو الفحص المجهري للمخاط، إلا أن جميع تلك المحاولات أثبتت فشلها في الكشف المبكر عن المرض، أو في تحقيق انخفاض في عدد الوفيات. ويحاول الأطباء حالياً في العديد من المراكز الطبية حول العالم، تقييم الأشعة المقطعية بالكمبيوتر، كوسيلة مسحية للتشخيص المبكر لسرطان الرئة. وإحدى أكبر تلك المحاولات، تتم من خلال المشروع الدولي للتشخيص المبكر لسرطان الرئة (the International Early Lung Cancer Action Project)، والذي يضم عدداً ضخماً من الأطباء والعلماء، يقومون حالياً بمقارنة وتحليل أكثر من 26 ألف حالة سرطان في الرئة، تم تشخيصها في مراحلها الأولية، وهي الحالات التي حققت نجاحاً ممتازاً على صعيد البقاء على قيد الحياة.
السبب الآخر الذي يجعل من سرطان الرئة مرضاً قاتلاً في غالبية الحالات، هو الحالة العامة للرئة لدى المصابين به. فالتدخين لا يتسبب في إصابة الرئة بالسرطان فقط، بل يقلل أيضاً من فعالية الأجزاء الأخرى للرئتين في القيام بوظائفها. وهو ما يجعل خيار استئصال جزء من الرئة، أو إحدى الرئتين بالكامل، خياراً غير متاح في الكثير من الأحوال، بسبب أن الجزء المتبقي لا يمكنه مد الجسم باحتياجاته من الأوكسجين وتخليصه من ثاني أوكسيد الكربون. ويحاول العلماء التغلب على هذه المشكلة باستخدام الأساليب غير الجراحية، المستخدمة في علاج الأورام السرطانية الأخرى، مثل العلاج الكيميائي أو العلاج الإشعاعي. ومؤخرا عمل الأطباء على تطوير أسلوب جديد يعتمد على موجات عالية التردد (Radiofrequency ablation)، والتي يمكن تشبيهها بموجات الميكروويف المستخدمة حالياً في المطابخ، حيث يتم تدمير الورم الخبيث من خلال الحرارة. هذا الأسلوب والذي يجمع غالباً مع العلاج الكيميائي، أصبح يتمتع مؤخراً بشعبية واسعة، بسبب تأثيره المحدود على موقع السرطان فقط، وعدم تسببه في أية آلام جانبية. ويتم تطبيق هذا العلاج من خلال إدخال مسبار حراري إلى داخل الرئة، وبتشغيل الجهاز يتم (طبخ) الورم، حيث تموت الخلايا السرطانية، ليقوم الجسم بامتصاصها لاحقاً. وفي أسلوب مشابه، تجرى حالياً دراسات حول استخدام التبريد الشديد -190 درجة مئوية تحت الصفر- بدلا من الحرارة لقتل الخلايا السرطانية. في هذا الأسلوب والمعروف بالكريو- سيرجري (Cryosurgery) يتم أيضاً إدخال مسبار إلى وسط الورم الخبيث، وبتشغيل الجهاز يتم تحويل الورم إلى كرة من الثلج، تموت داخلها الخلايا السرطانية، ليقوم الجسم بامتصاصها لاحقاً. هذان الأسلوبان الجديدان، يمكن استخدامهما في الحالات التي يعيق فيها سوء حالة الرئة أي تدخل جراح