أيمكنكم تخيل هذا؟ فها هو "القط" وقد ابتلع "تمساحاً استوائياً" عملاقاً للتو! ولكن المشكلة كيف يهضم القط التمساح العملاق؟ ربما تبدو هذه الصورة عبثية ومفارقة للغاية في المشهد الطبيعي العادي. ولكن الحقيقة هي أنه ليس ثمة شيء واحد طبيعي وعادي أصلاً, في الغابة السياسية الإيطالية كلها. وما "القط" المشار إليه في هذا المشهد, سوى السيد رومانو برودي, الذي تمكن ائتلافه الممثل لـ"يسار الوسط" من تحقيق نصر انتخابي كبير, في الانتخابات العامة التي جرت الأسبوع الماضي. أما "الكيمان" أو التمساح الاستوائي العملاق, فهو السيد سيلفيو بيرلسكوني, الملياردير ورئيس الوزراء السابق, الذي ينسب إليه تأسيس حزب "فورزا إيتاليا". هذا وقد التصق لقب "كيمان" بالسيد بيرلسكوني, على إثر عرض فيلم المخرجة السينمائية "اليسارية" ناني موريتي, الذي حمل الاسم نفسه, تعبيراً عن المضمون السينمائي الساخر للفيلم, الذي تناولت فيه المخرجة مجمل سياسات بيرلسكوني برؤية نقدية لاذعة وهزلية في ذات الوقت. سعياً مني لاستكمال قصة التسمية هذه, كنت قد توجهت مؤخراً بسؤال للسيد برودي, عن أي الحيوانات يرغب أن يكون, حتى يتمكن من الفوز على "الكيمان"؟ فرد علىّ بثقة تامة "قطاً"... فأنا أحب أن أخرخر مثل القط, إلا أنني أستطيع أن أخربش مثله كذلك!
وفي سبيل فهم مدى أهمية المعركة الانتخابية الأخيرة بالنسبة لمسار الجمهورية الإيطالية, فإنه لا بد لنا من العودة إلى نحو خمسة عشر عاماً خلت من تاريخها السياسي المعاصر. ويعود هذا التاريخ إلى نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي, التي لم تطو صفحتها, إلا بعد أن وضعت معها حداً كذلك. لعهد حكم الحزب "الديمقراطي المسيحي" وسيطرته على الحياة السياسية في إيطاليا. وبذلك فقد انفتح الباب واسعاً على مصراعيه أمام بيرلسكوني, رجل الأعمال العملاق, الذي تضم إمبراطوريته "ميدياست" الإعلامية, عدة شبكات تلفزيونية وصحفا, إلى جانب استثماراته في مجال العقارات. كما تضم الإمبراطورية نفسها فريق "إي سي. ميلانو" لكرة القدم, بل وائتلاف "فورزا" السياسي الذي فاز بالانتخابات العامة في 1994 ومرة أخرى في عام 2001. ومنذ ذلك التاريخ, فقد تمحور المشهد السياسي الإيطالي برمته حول شخصه هو. كيف لا وقد حظي بيرلسكوني بشعبية سياسية واسعة في أوساط قاعدته ومحبيه, فضلاً عن تقريظ عدد كبير من الكتاب الصحفيين, العاملين في إمبراطوريته الإعلامية العملاقة.
وها قد أطيح الآن ببيرلسكوني... فماذا بعد؟ أمام السيد برودي عامان فحسب, لإجراء كافة الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها إيطاليا, كي تتمكن من دخول حلبة التنافس الاقتصادي العالمي. ولكن الحقيقة أن الأغلبية التي فاز بها في الانتخابات ضئيلة للغاية, ويعود معظمها لأصوات الناخبين الإيطاليين في دول المهجر, مع العلم أن هذه هي المرة الأولى التي يسمح فيها للمهاجرين الإيطاليين بحق الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات العامة لبلادهم. ليس ذلك فحسب, بل المؤكد أن "اليسار الراديكالي" بقيادة فاوستو بيرتنوتي– المؤلف في غالبيته من الشيوعيين السابقين- سيقف بقوة في وجه أي تقدم نحو الإصلاحات.
لكن ومع ذلك, يظل في وسع السيد برودي الاعتماد على أصوات ومؤازرة قلة من البرلمانيين المعتدلين, الذين يبدون استعداداً لمد يد العون له في مسعى تسريع خطى وإيقاع السوق الإيطالية. غير أن في مقدور السياسات الرومانية الموروثة– بما فيها تقاليد المكر والتخريب- أن تستنزف كل قطرة طاقة وطموح سياسي لرئيس الوزراء الجديد. وعليه فليس متوقعاً أن يتجرع بيرلسكوني مرارة هذه الهزيمة السياسية التي مني بها, ويسكت عليها في صمت, مع العلم أنه المزهو بنفسه بلا حدود, باعتباره رجل أعمال ثرياً, فضلاً عن لمعان اسمه في مجالات عديدة لا حصر لها غير السياسة, منها الرياضة وعالم الحب والغرام, بل وحتى الطرب والدندنة والغناء. ولذلك فليس مستغرباً أن بدأ بإعداد العدة للمنازلة والهجوم المضاد. وفي غضون ذلك, فهو في انتظار هجوم مضاد آخر, متمثلاً في حلفائه السابقين في تحالف يمين الوسط , من شاكلة جيانفرانكو فيني– زعيم التحالف الوطني الفاشي سابقاً- وبيير فيردناندو الزعيم السابق لحزب "المسيحيين الديمقراطيين". ويستهدف هذا الهجوم منازلة بيرلسكوني وتحديه في مركز زعامة المعارضة الجديدة. يذكر أن بيرلسكوني كان قد سفه خصميه هذين تقريباً, بما يقرب إلى التجاهل التام, خلال تعليقه عنهما في حديث الثلاث ساعات, الذي ألقاه عبر شبكات التلفزيون القومية, قبيل المعركة الانتخابية الأخيرة.
هذا ومن المتوقع أن تدور أولى المعارك الحامية بين "كيمان" والقط, حول موضوع ساخن جديد, ألا وهو "قانون المصالح" الذي يفرض قيوداً على ممارسة الساسة للنشاط الاستثماري والتجاري. وكان هذا الموضوع قد ظل مثاراً للاهتمام على امتداد الاثني عشر عاماً الماضية, بسبب استغلال بيرلسكوني لسلطاته ونفوذه في السوق الحرة, ومضيه في تعيين المحررين والصحفيين والمدراء, بل وحتى