في ختام جلسات ندوة وزارة الأوقاف الكويتية "نحن والآخر"، 6-8 مارس الماضي، جلس على المنصة شخص طويل عريض كثّ اللحية أشقر الشعر، أوروبي أو أميركي السحنة، يلف رأسه بكوفية عربية زرقاء، كتلك التي نراها على رأس أو حول رقبة مؤيدي العرب والمسلمين في المسيرات والتظاهرات الأورو- أميركية. تبين فيما بعد أن الرجل داعية مسلم نشط، وأنه من تكساس، "ولاية الرئيس بوش"، كما قال ساخراً!
انطلق "الداعية يوسف" يشرح نشاطات الدعوة في أميركا والفقر الروحي لدى الناس، وإقبال الأميركان على الإسلام وتقبلهم للدعوة، ودخول الكثيرين في الإسلام، واجتماعه بهم في البيوت وفي المساجد وفي أماكن كثيرة. وتطرق في حديثه إلى أشياء عديدة أخرى في الواقع الأميركي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية وغير ذلك.
ولا شك أن حديثه كان مفيداً ممتعاً، يقدم صورة حية عن الدعوة الإسلامية في أميركا رغم تأثير الأحداث الإرهابية. كما أن نشاطه كان نموذجاً لحرية الحركة والعقيدة والدعوة في دولة لها مشاكل عديدة في أكثر من دولة عربية، وتحرق إعلامها على شاشات التلفاز كل يوم تقريباً، من الفلبين إلى... باريس!
التقيت الداعية الأميركي النشط خارج القاعة أثناء الاستراحة، فشكرته، ثم سألته من باب الفضول: ماذا تفعلون هناك في تكساس مع من يترك المسيحية إلى الإسلام، ويبقى معكم مسلماً عاماً أو عامين، أو أقل أو أكثر، ثم يقرر العودة إلى المسيحية ثانية؟ فوجئ ربما بالسؤال، فأجاب مازحاً: We shoot him!·· أي نطلق عليه النار! ثم واصل كلامه بجدية: كلا، نحاول أن نجتمع به مراراً ونناقش أفكاره وشكوكه، وننصحه ببعض القراءات، وهكذا. ولم أسأله ماذا لو أصر على رأيه، ولم يجد معه التوجيه والنقاش والكتاب!
قلت له: هذه إحدىمحاور الجدل اليوم في العالم الإسلامي حول "حرية التدين والعقيدة". وكم كان بودّي لو أن المسلمين الأوروبيين والأميركيين، أو المسلمين المهاجرين إلى تلك الدول، ينقلون إلى بلداننا وإلى مجتمعاتهم التي هاجروا منها، تقاليد النقاش والحوار وحرية الفكر والإقناع وعدم فرض الطقوس والتقاليد والعقائد على الآخرين، واحترام تعددية الأديان والثقافات في المجتمع، باعتبارها من مصادر التسامح الاجتماعي والتماسك الإنساني.
فمتى تصل مجتمعات العالم الإسلامي إلى مثل هذه المرونة والحيوية والثقة بالنفس، والاستغناء عن أدوات التكفير والتفسيق و"التفريق"؟!
كان بين المتحدثين في الندوة د. علي جمعة عبدالوهاب، مفتي جمهورية مصر العربية، الذي تحدث عن "معالم العلاقة مع الآخر، ضوابطها ووسائلها". وقد اقترح ضمن الأفكار التي عرضها، اصطفاء خمسين كتاباً من التراث الإسلامي، لترجمتها إلى مختلف اللغات، على غرار مجموعة أمهات كتب الفكر والثقافة والفلسفة الغربية، التي نشرتها هيئة الموسوعة البريطانية قبل عقود.
وقلت لنفسي: يا لتفاؤل هذا الرجل الطيب! الفلسفة والثقافة والأدب في معركة حياة أو موت في مجتمعاتنا ومدارسنا وفتاوانا، وهو يطالبنا بكل حسن نية بأن نختار أبرز ما في تراثنا من كتب فكر وثقافة لنترجمه إلى لغات الإنجليز والألمان والطليان والفرنسيس!
وقلت كذلك هامساً: لو شُكِّلت لجنة من وزارات الأوقاف العربية لفرز هذه الكتب الفكرية والفلسفية والأدبية، لصدرت في بلداننا قوائم جديدة من الكتب الممنوعة والمشبوهة، ولدارت معارك دينية وإعلامية بين الهيئات الدينية والفقهاء والإسلاميين والإخوان والسلف والشيعة والسنة.
بين يدي مثلاً كتاب مجلد مذهب جميل في مجلدين، صادر في الرياض عام 1995، بعنوان "كتب حذّر منها العلماء". الكتاب واقع في نحو 900 صفحة، والكتب التي حذر منها العلماء كثيرة جداً بينها كتب المتصوفة وعلم الكلام والفلسفة، ومن بين الكتب كذلك "الأغاني" و"العقد الفريد" "والكامل في الأدب"، و"نهاية الأرب في فنون الأدب" و"مروج الذهب" و"تاريخ اليعقوبي"، والكثير من مؤلفات أحمد أمين وطه حسين وجورجي زيدان!
الغريب في هذا المجال، أن كل رجال الدين والوعاظ وقادة الإسلام السياسي، يتحدثون في ندواتهم ومصنفاتهم عن "الإسلام الحضاري"، ويشيرون إلى ثراء هذه الحضارة في القاهرة وبغداد ودمشق والأندلس، وفي إيران والهند وتركيا. ولكننا حتى اليوم، وحتى في مصر نفسها، نتجادل حول وجود التماثيل في الميادين العامة، وخطرها على سلامة عقيدة المسلمين إذا دخلت البيوت! كيف إذن نجت الآثار الفرعونية في مصر من فؤوس المسلمين منذ زمن عمرو بن العاص؟
ثم أننا عندما نختار هذه الكتب من التراث، والتي نريد بها أن نخاطب الآخر، الفرنسي أو الياباني أو الكندي أو الكوري، فلابد أن تكون مقاييسنا إنسانية رحبة، والنصوص التي نختارها ذات قيمة أدبية وفكرية تنافس ما لدى الآخرين، والأشعار والروايات المترجمة تتحكم بها رؤى ناضجة متبحرة في الثقافة الأدبية. فهل "لجان مراقبة الكتب" في وزارات الأوقاف الإسلامية مهيأة لهذا الاختبار العسير؟
ربما من الأفضل أن نتحاور فيما بيننا أولاً على "الوضع الشرعي" للأدب المعاصر والفكر الحديث والثقافة