من يتابع تاريخ العراق الحديث والمعاصر يشعر وكأن هناك "لعنة" أو "سحراً أسود" أصاب شعبه، فقد ظل هذا الشعب يعاني الويلات عبر عقود من الزمن، ففي ظل حكم الطاغية صدام حسين وزبانيته دفع الشعب العراقي ثمن خوفه وقهره من حريته ومستوى معيشته والزج به في مغامرات حربية متعددة كلها خاسرة تحمل أسماء أعضاء أسرة "أم المعارك" كلهم، زادت خسائرها على أكثر من المليون قتيل عراقي ومليونين من جرحى الحرب.
ثم عانى الشعب العراقي عقوبات دولية طاحنة عادت به إلى زمن القرون الوسطى ثمناً لاستمرار الطاغية ونظامه في الحكم. ثم تكرر سيناريو خسائر الشعب العراقي مرة أخرى عندما قررت إدارة بوش الصغير خلع الطاغية ونظامه بالقوة العسكرية وفرض الاحتلال العسكري على العراق.
ولكن من الواضح الآن أنه قد حان وقت دفع العراق ذاته كدولة وشعب استحقاقات المعاناة التي واجهها؛ ولا يزال، عبر تاريخه الحديث، فانقلب على جلاديه، ودمر المعبد على من فيه، وأصبح الموت "غاية" للخلاص من الموت، بعد أن تمرد الجميع على الجميع وعاد صراع الأخوين "قابيل" و"هابيل"، وإن كان كل منهما قد بات أشد حرصاً على قتل أخيه.
وربما ما نشهده الآن هو معركة النهاية في انقسام وتقسيم العراق، إنها "حفيدة أم المعارك"، والابنة بالتبني لـ"عملية الحرية للعراق"، فأطرافها يقاتلون ويقتتلون بضراوة وعنف لم يسبق لهما مثيل، لأن كل طرف يعرف نقاط ضعف الآخر ويركز عليها، وكل طرف يفطن لمكان الجراح النازفة للآخر فيصب عليها الزيت لمزيد من الألم والمعاناة.
عندما قررت القوات الأميركية غزو العراق وبدأت حربها في 20 مارس 2003، كان هدفها الاستراتيجي العسكري "بغداد أولاً"، ولم تكن تدري أنها بذلك تضع أول مسمار في "نعش" تماسك العراق ووحدته الوطنية وهويته القومية، وتعطي إشارة البدء في سباق دفع استحقاقات وتصفية حسابات عقود مضت وتفتح الصراع على مصراعيه بين طوائفه.
ما يدور الآن على أرض العراق هو المعركة الفاصلة حول الاستيلاء على بغداد، وليس الهدف جغرافياً بقدر ما يحمله من مغزى سياسي ومعنوي، فبغداد هي الجائزة التي يحاول كل طرف من أطراف الصراع الحصول عليها، فهي رمز الديكتاتورية، ومصدر السلطة، ودليل النفوذ، ومركز الحكم، ولكن الجميع يتناسى أنها في الوقت ذاته "ملعونة" بلعنة الاستبداد، فكل من يسيطر عليها تصيبه هذه اللعنة فيصبح أسير السلطة والكرسي، حدث هذا مع القادة الأميركيين وأولهم "بول بريمر" الذي أمر بحل الأجهزة العراقية جميعها المسؤولة عن حفظ الأمن والاستقرار في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، لينفرد بممارسة السلطة في ظل قوات أميركية لا تعرف عن العراق شيئاً، وتكرر الأمر مع الحكومة العراقية المؤقتة، ولا يخفى على أحد أن هذه اللعنة الاستبدادية قد أصابت مؤخراً "إبراهيم الجعفري" رئيس الوزراء المؤقت، وجعلته يرفض الاستماع لصوت العقل والشعب في أن يتنازل عن ترشحه لمنصب رئيس الوزراء لزميله عادل المهدي الذي كان قد تغلب عليه بفارق ضئيل للغاية في الترشح للمنصب، ويقدم مصالح الوطن العليا على مصالحه الشخصية وطموحاته في السلطة، ويحقن الدماء بعد ما ثبت ارتباطه بالميليشيات الشيعية، ولكن هيهات أن يحدث ذلك ودماء "صدام حسين" تجري في عروق كل من يتولى السلطة في بغداد وتصيبه اللعنة الاستبدادية.
إن الصراع العنيف على بغداد يدور بين طوائف دينية وتيارات سياسية عدة، من أهمها: الأحزاب الشيعية التي سقطت على العراق من الخارج مثل حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والتيار الصدري الذي ظل في الداخل والذي يحاول الجعفري الذي أتى من الخارج أن يتحالف معه اليوم، والتيارات السُنية المدنية الدينية التي تعتبر عقائدية أكثر منها سياسية ومنها هيئة علماء المسلمين وجبهة التوافق التي تبحث عن مكان في كعكة السلطة، والأميركيون الذين يريدون فرض هيمنتهم على نظام الحكم وتحديد توجهاته.
والجميع لم يتوان عن استخدام كل ما يستطيع من أسلحة غير مشروعة للحصول على بغداد، ومن أهم هذه الأسلحة:
- إشاعة الفتنة الطائفية من خلال العمليات التي نشهدها كل يوم من قتل جماعي غامض لعدد كبير من أتباع المذهب السني، يقابله عدد آخر من القتلى الشيعة، ويواكب ذلك تدمير متبادل لدور العبادة والرموز الدينية وقتل المصلين.
- التطهير والتهجير الطائفي الذي تحاول من خلاله كل طائفة إجبار من يسكن وسطها من الطائفة الأخرى على الرحيل بعيداً عنها، ليتحول الوضع في بغداد إلى كانتونات مذهبية طائفية منعزلة، وهو أمر بدأ ينتشر في مدن عراقية كثيرة أخرى·
- اعتماد الإرهاب وسيلة أساسية لإجبار الآخرين على الرحيل، من خلال التمثيل بالجثث والتوسع في العمليات الانتحارية وزيادة أعداد القتلى المجهولين.
- المراهنة على رحيل القوات الأميركية التي تقف متفرجة على ما يحدث طالما ظل الصراع بعيداً عن مناطق تمركزها، فكل طائفة تحاول إثبات أنها البديل المناسب عن هذه القوات من جانب، وتسعى إلى فرض سيطرتها على أكبر مساحة من الأرض عندما يحين وقت الحساب من