عنوان: "الولايات المتحدة على مفترق الطرق" ليس لي، بل هو لفرانسيس فوكوياما، صاحب "نهاية التاريخ"، وصاحب "اقتصاد الثقة"، وأخيراً: "الولايات المتحدة على مفترق الطرق: القوة والسياسات ومواريث المحافظين الجدد". وقد أثبت فوكوياما في كتابه الجديد هذا، ما تردد خلال النصف الثاني من العام 2005 بشأن خلافاته مع المحافظين الجدد، عندما أعلن عن "خطأ" "المحافظين الجدد" هؤلاء في ثلاثة أمور رئيسية: التوحيد بين المصلحة الوطنية الأميركية وما سمَّوه رسالةً أميركية، وتثبيت الأمن القومي الأميركي والأمن العالمي بسياسات القوة أوالحروب الاستباقية، وتغيير النظام العالمي ومؤسساته بما يتوافقُ مع المصلحة والرسالة معاً. وقد صار من المألوف في السنوات الخمس الأخيرة المزج بين تياري "المحافظين الوطنيين" الذين منهم فوكوياما، و"المحافظين الجدد"، ذوي التأثير الكبير في إدارة الرئيس بوش الأولى. ويرجع هذا المزج إلى التقارب الذي حصل بين التيارين في عمليات مكافحة الإرهاب، بعد هجمات "القاعدة" على نيويورك وواشنطن في سبتمبر عام 2001. فقد رأى "المحافظون الوطنيون" وقتها أنّ الإرهاب وصل إلى الداخل الأميركي، ولا بد من مكافحته عسكرياً على مستوى العالم لحماية المواطنين الأميركيين من هجماتٍ محتملةٍ أُخرى، إن لم تجر مكافحةُ الإرهاب في منابعه ومواطنه الأصلية. وقد انتهز "المحافظون الجدد" الفُرصة ( في ظل الإجماع المُحافظ: السياسي والديني) لإنفاذ الأجزاء الأُخرى من برنامجهم: رسالة تغيير العالم، والانفراد بالبرنامج دون أطراف المجتمع الدولي لأنه جزءٌ من المصلحة الأميركية، والمُضيّ لحروبٍ استباقيةٍ لضرب الإرهاب المحتمل ولنشر رسالة الديمقراطية التي تؤمّنُ المصلحة الوطنية الأميركية، والمصلحة العالمية في الحاضر والمستقبل.
وخلال حوالي الأربع سنوات: تلاعبت الولايات المتحدة تساعدُها بريطانيا في كل الخطوات، بالنظام الدولي، وبأولويات المؤسسات الدولية، وشنّت حروباً على مدى العالم بالجيش وبالاستخبارات. وفرضت برنامجاً في منطقة الشرق الأوسط دخلت فيه إلى جانبها الدول الأوروبية، ودول حلف الأطلسي، بعنوان: الشرق الأوسط الأَوسع، يتضمن سياسات لتطوير الديمقراطية وحقوق الإنسان. بيد أّن معظم ما قامت به الولايات المتحدة ارتدَّ عليها معكوساً، أو أنه لم يُؤْتِ أيَّ ثمار. فالاستيلاءُ على أفغانستان والعراق ما أخمد الإرهاب بل زاده، والديمقراطية ما بعثت على الاستقرار في البلدين، ثم إنّ الديمقراطية التي ناصرتْها أدت إلى إضعاف حلفائها في الأنظمة، وبروز الحركات الأُصولية الإسلامية التي لم تُمارسْ عنفاً منتظماً، لكنها تُشاركُ العنيفين في كراهيتها للولايات المتحدة، وللتغريب!
في الربع الأخير من العام 2004 بدأ "المحافظون الوطنيون" بالتذمُّر. لقد حسبوا حساباً لكل شيء إلاّ لمسألة الرسالة الأميركية، والتي تقتضي تواجُداً عسكرياً وسياسياً أميركياً في الخارج البعيد ولمدياتٍ طويلة. لقد كان مفهوماً القيامُ بإسقاط "طالبان"، والمجيء بحكومةٍ بديلةٍ بسبب إيوائها لأُسامة بن لادن. لكنّ ما ليس مفهوماً من وجهة نظر المصلحة الوطنية الأميركية غزو العراق، مع العلم أنه لا إرهاب يمارسه نظام صدام ضد الولايات المتحدة، ولا يملك أسلحة دمارٍ شاملٍ تهدّد الولايات المتحدة وحلفاءها. وحتى على فرض وجود أسلحة الدمار؛ فهذه مسؤوليةٌ عالميةٌ جماعيةٌ لا تحتاج الولايات المتحدة للانفراد في القيام بها- بينما الذي جرى تعمُّد مخاصمة الجميع بمن في ذلك الحلفاء في الأطلسي من أجل غزو العراق، والأفظع: تسليمه أوالتمهيد لتسليمه لإيران التي هي أخطر على المصلحة الوطنية الأميركية وعلى إسرائيل، من عراق صدّام بمراحل شاسعة!
ومن أجل ذلك، ومع تطور النقاش، وازدياد احتمالات الفشل بالعراق، وبروز مشكلات داخلية كثيرة ما تصدت لها إدارة بوش الأولى ولا الثانية بمنظار المصلحة الشاملة؛ فإنّ "المحافظين الوطنيين"، أعلنوا عن تمردهم على "المحافظين الجدد"، واتهموهم بالمسؤولية عما أصاب الولايات المتحدة، وما يصيبُها في المدى القريب. ولا يعني ذلك أنّ "المحافظين" قلُّوا أو انقسموا، فـ"المحافظون الجدد" ليسوا مسيطرين في أوساط الحزب "الجمهوري"، بل المؤثرون إلى جانبهم في الحزب هم الإنجيليون الجدد، وهؤلاء ما عاد لهم توجُّهٌ ثابتٌ، لكنّ أكثر ملفاتهم وأولوياتهم داخلية أميركية. وإذا لم يستطع "المحافظون الوطنيون"- ومنهم فوكوياما- صنع اتجاهٍ آخر، وقادة جُدُد؛ فإنَّ الديمقراطيين يمكن أن ينجحوا في الانتخابات النصفية، وفي العودة إلى رئاسة الجمهورية أواخر العام 2008.
أكبر أدلة "المحافظين الوطنيين" و"الديمقراطيين" على فشل إدارة بوش: حرب العراق ومصائرها. فحتى أشد أنصار بوش حماساً لا يفهم لماذا جرى التحالُفُ مع إيران قبل الغزو، وإدخالها عملياً إلى العراق، ثم التظلُّم من تدخُّلها بعد ذلك؟ وما يزال معظم أنصار الحرب على العراق يتجنبون القول إن الغزو كان خطأً. لكنهم ينصرفون بعد ذلك إلى نقد كل شيء: من حلّ ال