أمران أسهما في طرحي من جديد لموضوع الصمت الذي تعرضنا له في الأسبوع الماضي، وقبل أن أذكرهما دعوني أذكركم بأن المقال السابق تعرض إلى حالة العديد من الناس الصامتين فيما يبدو لنا، لكن عندهم الكثير كي يتحدثوا حوله لو أتيحت لهم الفرص، وصمتهم هذا لا يصب في مصلحتهم أو طموحات دولهم.
أما الأمر الأول الذي قادني لفتح هذا الموضوع من جديد فهو زيارتي خلال الأسبوع الماضي إلى فرنسا والتي كانت تعاني من الاحتجاجات الطلابية على مشروع العمل الجديد، ونتج عن هذه الاضطرابات تعطيل الدراسة وتأخير الاختبارات وبعض الأضرار المادية البسيطة. بعض الأكاديميين في فرنسا يرى أن سبب هذه الاحتجاجات عدم فهم الطلبة لروح القانون وأنه يصب في مصلحتهم المستقبلية وليس كما صوره بعض أقطاب المعارضة بأنه فرصة لأرباب العمل للتخلص من العمال متى ما رأوا ذلك. وفي فرنسا وعلى تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً حضرت اجتماعاً للسنت الفرنسي، البرلمان، وهو يناقش القضايا الاجتماعية في دولتهم فتعجبت من الأعضاء الذين يجتمعون حتى تلك اللحظة من الليل لأنهم عرفوا أن دورهم إن لم يقوموا به فلن يكون لهم مكان في الانتخابات القادمة.
الأمر الآخر الذي قادني للكتابة حول نفس الموضوع الاتصالات والمحادثات الكثيرة التي تلقيتها فور قراءة الناس للمقال السابق، صراحة لم أكن أتصور أن هذا العدد الكبير من الصامتين موجودون في دولتنا، نعم فكثيرة هي المؤسسات والدوائر التي تعتقد أن سكوت الناس يعني الرضا وفي حقيقتهم جمر يشتعل تحت الرماد يوشك أن يكون له ضرام كما قال العربي قديما. ويبدو أن حيز الصمت بدأ يقل مع المشاهد الأخيرة التي حدثت من قبل بعض العمال فقد نشرت "الأبزيرفر" تقريراً من إعداد "مكدوجال" ملخصه: "أن العمال الغاضبين من أجورهم المنخفضة بدبي يسعون لنقل تظاهراتهم لمراكز التسوق المترفة التي بنوها، ليشعر السياح بمعاناتهم، حيث نقلت عن عامل قاد احتجاج عمال برج دبي إنهم بحاجة لفعل المزيد، قال كاتب المقال إنه بالرغم من ادعاء المقاولين والسلطات بتحسينات في معسكرات العمال فإن كثيرا من المعسكرات التي زارتها الصحيفة في دبي تظهر الظروف المعيشية السيئة"! لست هنا بصدد الكتابة عن هذه الحالة لكني أريد التأكيد على فكرة أن الصمت لا يقود الناس إلى الخير بل وفي كثير من الحالات قد يقود لتصرفات غير مسؤولة التي رأيتها في فرنسا وأتمنى ألا تحدث في بلدنا.
كيف تعاملت الدول مع حق الإنسان في الكلام؟ سؤال قد نحتاج إلى أوراق أكثر للحديث حوله، لكن بالإمكان تلخيص هذه المسألة أن الأصل يكمن في حق الإنسان في استخدام اللسان ومن ثم جاء التشريع في الكثير من الدول بهذا المفهوم وأن الإنسان له كامل الحرية في التعبير عن رأيه وأن كل من يجبره على الصمت فقد أخلَّ بحق أساس من حقوقه، ولا ينبغي محاسبة الإنسان إلا في حدود القانون، الذي ينبغي أن يكون واضحاً وغير قابل للتأويل، هذا من جانب والجانب الآخر يكمن في سن قوانين الجمعيات والنقابات العامة والتي تكفل الدفاع عن حق الإنسان متى ما انتهك. فبدلا من التعبير الغوغائي عن الصراعات التي يعيشها الفرد تتحول هذه الأمور إلى نظام يكفل حق الفرد والمجتمع، وقد أحسنت الدولة بتشريع نظام الجمعيات المختلفة وقريباً نقابات العمال. ولكن ماذا نفعل بالصامتين من العاملين في مؤسساتنا، هناك أمور كثيرة منها فتح مجالات الحوار معهم فسعادة الموظفين لا تقدر عندما يرون مديرهم يجلس معهم بين فترة وأخرى لشرب الشاي والحديث العابر، ولتكن لنا عبرة بالجولات التي يقوم بها الحكام في مواقع العمل، فمجتمعنا بحاجة إلى هذه اللحمة وهذه الشفافية والتي من خلالها يعبر الإنسان عما في نفسه دونما خوف أو وجل، بل يعرف أنه في مجتمع لا يضيع فيه أجر ولا تنتهك فيه حقوق للإنسان لأن القانون واضح للعيان.