قلْ لأحدهم في العاصمة الأوكرانية كييف, إنك على موعد للقاء الرئيس يوتشينكو, وسرعان ما ستنهال عليك النصائح والاقتراحات والطلبات التي لا أول لها ولا آخر. من ذلك مثلاً ما طلبت مني إحدى الأوكرانيات قوله له: أرجوك دعيه يهتم بتمويل "إذاعة الحرية", بينما أعطتني أخرى كتاباً فرغت هي من نشره للتو, طالبة مني توصيل نسخة منه للرئيس. وهناك صحفي أوكراني قرر عدم شغل نفسه بما إذا كان يوتشينكو قد بذل ما يكفي من الجهد في محاولة معرفة من أراد تسميمه بمادة "الديوكسين", أثناء المعركة الانتخابية الحامية التي سبقت وصوله إلى المنصب الرئاسي عام 2004. وقال لي إن من المؤكد أن الرئيس يعرف جيداً هوية هذا الشخص. وبدلاً من ذلك, مضى الصحفي إلى القول, إنه مما يستحق العناء وبذل الجهد حقاً, محاولة معرفة الأسباب التي دعت الرئيس لحجب هذه المعلومة عن شعبه, طيلة هذا الوقت!
وبسبب ما يشبه حالة الهستيريا الأمنية المحيطة بالرئيس, من إجراءات ورقابة صارمة, وإلغاء وإعادة جدولة للمواعيد المسبقة معه, ولكثرة رنين الهواتف المتدفقة على مكتبه من مستشاريه المختلفين, فقد خيّل إلي أنني بصدد مقابلة شخص خارق القدرة والنفوذ, من طراز أولئك الساسة الذين يستطيعون صنع المعجزات بإشارة إصبع واحدة. وعلى أية حال, فهذا هو النفوذ الذي يأمل الأوكرانيون توفره في رئيسهم المنتخب شرعياً وديمقراطياً. فسواء كان عن وعي أم دون ذلك, فإنهم يفترضون في رئيسهم الذي انتخبوه ديمقراطياً, وأقاموا له الأرض ولم يقعدوها بالثورة البرتقالية, أن تكون له نفس قدرات القادة السوفييت سابقاً, وأن يتمتع بالموارد البيروقراطية الإدارية ذاتها, بل كذلك بقدرة الوصول إلى المعلومات السرية. وعليه فإن المفترض فيه أن يكون قادراً على إقناع أصدقائه الأميركيين بتمويل "إذاعة الحرية", ومساعدة دور النشر على البقاء والاستمرار في أداء دورها في مجال النشر والطباعة, علاوة على قدرته على الكشف عن الأسرار المحيطة بالجرائم الذائعة سيئة الصيت.
ولكن المؤكد أنه لا يتمتع بكل هذه القدرات الخارقة, كما يعترف هو نفسه بذلك. فقد تمكنت من لقائه في مكتبه الذي يغص بمقتنيات التراث الأوكراني. وكان أول ما بادرني بالحديث عنه, تعثر التحقيقات الجنائية الجارية حول محاولة تسميمه. وقال لي إنه وفي اللحظة التي تسلم فيها مسؤولياته الرئاسية إثر الانتخابات, كان رئيس الادعاء لا يزال على ولائه للنظام السوفييتي السابق, وأنه راوغ وتلكأ في المضي في التحقيق, حتى مكن الشاهد الرئيسي في القضية, من الفرار إلى روسيا. وحدثني الرئيس الذي لا يزال وجهه متأثراً بالمضاعفات الجانبية التي تخلفها سموم "الديوكسين", أن السلطات الأوكرانية طلبت من نظيرتها الروسية, تسليمها ذلك الشاهد, بغرض استجوابه. لكنه هز كتفيه, كناية عن عدم ثقته فيما سيحدث بالفعل, قائلاً لي "وها أنتِ ترين ما هي عليه الأمور".
والقاعدة العامة التي تنطبق على كل البلدان, هي أن في وسع أي علاقة واهية مع "الأخ الأكبر" أن تدمر المهنة السياسية لرئيس الدولة المستضعفة. أما في حالة الرئيس "يوتشينكو", فإن هذه العلاقة الواهية, تتسبب له بمشكلات لا حصر لها. والسبب أنه محاط أولاً بهالة من المسؤولين الفاسدين, تمكن الكريملن من شراء الكثيرين منهم بأموال النفط, في حين تتمسك غالبيتهم بولاءاتها الروسية القديمة, للعهد ما بعد السوفييتي. وعلى الرغم من محدودية سلطات رئيس أي نظام برلماني تمثيلي, فإن هذه المحدودية تتضاعف عدة مرات في دولة مثل أوكرانيا, إلى درجة تصل فيها المعلومات السرية التي تتلقاها أجهزة الشرطة والاستخبارات, إلى موسكو, دون أن تطرق أذنيه البتة! وربما يصدق هذا الواقع, حتى في حال حرص موسكو نفسها على تنصيب "يوتشينكو" في موقعه الرئاسي الحالي. غير أن الحقيقة الساطعة, هي أن موسكو لم تبد يوماً ما يشير إلى موافقتها عليه, وأنه لم يصل إلى منصبه الرئاسي, إلا بعد اندلاع الثورة البرتقالية الشهيرة, وهي عينها نمط الثورات التي شد ما تخشاها موسكو.
ومن جانبه يبدي "يوتشينكو" حذراً واضحاً في الحديث عن هذه المشكلات. من ذلك مثلاً وصفه لقرار موسكو بوقف إمدادات الغاز إلى أوكرانيا, بأنها خطوة لن تفيد العلاقات بين البلدين, في حين وصف علاقاته الشخصية بنظيره الروسي بوتين بـ"الجيدة جداً". بل حاول "يوتشينكو" أن يكون إيجابياً قدر المستطاع, حتى في القضايا المتنازع عليها منذ أمد طويل بين البلدين: منها على سبيل المثال, النزاع حول القواعد البحرية الروسية في أوكرانيا, والنزاع الحدودي بين الدولتين, بل ومجاعة عقد الثلاثينيات التي يعتبرها الأوكرانيون مسعى روسياً متعمداً لإبادتهم وتطهيرهم عرقياً, في حين اكتفت موسكو بالتجاهل التام لهذه المزاعم المثارة ضدها. وعلى الرغم من تكوين اللجان وإنشاء المفوضيات المعنية بالنظر في كل هذه القضايا, فإن شيئاً منها لم يحدث في الواقع العملي الملموس, على حد اعتراف الرئيس نفسه.
وعلى أية حال, فإن بعض هذه المشكلات, يفسر إلى حد ما على الأقل, ضعف