أشرت في مقال سابق إلى معلومة غريبة بل ومخيفة، وهى أن اليهودي الذي كان يتقرر حرقه في أفران الغاز النازية كان يشار إليه باعتباره "مسلمان" Muselemann، أي "مسلم" بالألمانية. وقد اختفت هذه المعلومة تماماً من الأدبيات الغربية عن الهولوكوست، لأنها تسبب الكثير من الحرج لمن يحاولون الاتجار بالمحرقة. وقد تناول المفكر الباكستاني المسلم (المقيم في السويد) بارفيز منظور هذه القضية في مقال له بعنوان "تحويل اليهود إلى مسلمين: الملحمة غير المحكية"، نشر في Islam21 عدد إبريل 2001. وقد قرأ كاتب المقال العديد من الدراسات حول هذا الموضوع ومن أهمها بحث "جين إمري"، أحد الذين أُنْقِذوا من الهولوكوست، وقد نُشر البحث تحت عنوان "عند حدود العقل: خواطر ناجٍ من معسكر أوسشفيتز وواقعه"، (شوكن بوكس، نيويورك، 1986، ص9). يبين الباحث في كتابه أن الذين أطلق عليهم لقب "مسلمان" في معسكرات الاعتقال النازية: "هم هؤلاء الذين فقدوا الأمل وكل رغبة في البقاء، فكانوا يتحركون وكأنهم جثث حية، كومة من الوظائف الفسيولوجية، ولم يعد لديهم مكان في وعيهم للمتضادات مثل الخير والشر، أو النبل والوضاعة، أو الثقافة والجهل، ولذا فقد زملاؤهم الأمل فيهم".
وقد تناول "بريمو ليفي"، الروائي الإيطالي وأحد الناجين من أوسشفيتز، نفس الموضوع في كتابه "البقاء في أوسشفيتز وعودة الصحوة" (ساميت بوكس، نيويورك، 1986). فيقول: "كل "المسلمان" الذين لقوا حتفهم في غرف الغاز قصتهم واحدة، أو بالأصح ليست لديهم قصة على الإطلاق. فهم تبعوا المنحنى إلى أسفل، مثل الأنهار التي تصب في البحار. فحين وصلوا إلى المعسكر، بسبب سوء الحظ أو عدم قدرتهم على الهروب، أو بسبب حادثة تافهة، لم يتمكنوا من التأقلم، لأنهم لقوا حتفهم قبل ذلك. حياتهم كانت قصيرة، ولكن أعدادهم كانت لا نهاية لها. إنهم "المسلمان" الذين سقطوا من العمود الفقري للمعسكر، مجموعة مجهولة، دائمة التجدد ومتماثلة تماماً، من كائنات غير آدمية، تسير وتعمل في صمت. انطفأ وهج الحياة فيها، فهم كائنات أكثر مواتًا من أن تستشعر الألم. يتردد الواحد منا في أن يطلق عليهم "أحياء"، ويتردد كذلك في تسميتهم أمواتاً".
ومن أهم الأعمال الأخرى حول هذا الموضوع الدراسة التي قام بها المفكر الإيطالي جورجيو أجامبين "بقايا أوسشفيتز: الشاهد والأرشيف"، (ترجمة دانييل هيلر روزن، زون بوكس، نيويورك، 1999). تذهب الدراسة إلى أن "مسلمان" معسكرات الاعتقال "كانوا يعتبرون كائنات غير محددة المعالم، تمر من خلالها الإنسانية واللاإنسانية، والوجود وعلاقات الأشياء ببعضها بعضاً، والفسيولوجيا والسياسة والحياة والموت. إن معسكرات الاعتقال هي اللامكان الذي تدمر فيه كل عوائق الانضباط وتغرق فيه كل الضفاف".
وقد نُظر إلى "المسلمان" الفرد باعتباره "الصفر الحقيقي في أوسشفيتز، بالإضافة الى كونه الشاهد الصامت المؤثر لشرور النازي". و"هو الحارس الواقف على عتبة أخلاقيات جديدة، أخلاقيات لها شكل وحياة يبدآن حيث تنتهي الكرامة. إنه اللاإنسان الذي يبدو وكأنه إنسان، وهو الآدمي الذي لا يمكن التفرقة بينه وبين غير الآدميين". "إنه لا يمثل الحدود بين الحياة والموت فحسب بل يمثل العتبة بين الإنساني وغير الإنساني". وإحدى السمات التي يتم وصف المسلمان بها باستمرار هي أنه موجود بين الحياة والموت، أي أنه "جثة متحركة". إن أوسشفيتز –بالنسبة لأجامبين- قبل أن تصبح معسكرا كانت "موقع تجربة ظلت في طي النسيان حتى اليوم، وهي تجربة ما وراء الحياة والموت يتم خلالها تحويل اليهودي إلى مسلمان والإنسان إلى غير آدمي".
ويرى أجامبين "أننا لن نفهم ماهية أوسشفيتز إن لم نفهم من أو ما هو المسلمان". وانطلاقاً من أفكار "كارل شميت" و"فوكو"، يربط "أجامبين" بين دخول "المسلمان" الساحة التاريخية السياسية وبين تحول القوى والسلطة الذي حدث في عصر الحداثة. فالسلطة السيادية للسياسة التقليدية –أي الحق القديم في القتل أو الإبقاء على الحياة– أفسحت الطريق أمام القوة والسلطة البيولوجية للدولة العلمية الحديثة التي تملك سلطة وأدوات "منح الحياة أو الموت". ففي مجال القوة والسلطة البيولوجية نجد أن الأفراد والشعوب يتم مزجهما معاً، ويصبح الكيان السياسي للدولة ذا حدود مشتركة مع الكيان البيولوجي للدولة. وبالنظر إلى هذا التحول الجذري للسلطة، يخلص "أجامبين" إلى أنه "من الممكن أن نفهم الوظيفة المحددة للمعسكرات في النظام السياسي البيولوجي للنازي. فهي ليست مجرد أماكن للموت والإبادة، بل هي أيضا -وفوق ذلك– مواقع إنتاج "المسلمان"، المكون النهائي السياسي البيولوجي الذي يمكن فصله في السلسلة الاستمرارية البيولوجية. أما ما وراء "المسلمان" فنجد فقط غرف الغاز.
وقد كتب كل من "زدزيسلاف رين" و"ستانتسلاف كلودزينسكي" بحثاً بعنوان "على الحدود بين الحياة والموت: دراسة حول ظاهرة "المسلمان" في معسكرات التعذيب" (كتيبات أوسشفيتز، المجلد الأول، فاينهايم وبازل: بيلتز، 1987). يلاحظ الباحثان أنه "لم يتعاطف