الكتاب الذي نقوم بعرضه في هذه المساحة وعنوانه "كوكب الأحياء الفقيرة" لمؤلفه "مايك ديفيز" يعتبر من الأعمال الجريئة والكاشفة إذ يحتوى على العديد من المزايا ويعاني في ذات الوقت من بعض العيوب التي قد تكون قليلة ولكنها جسيمة في الحقيقة. فإذا ما تناولنا مزايا الكتاب فسنجد أنها تتمثل في العرض الشائق والشامل الذي يقدمه المؤلف لما يعرف بعملية "التمدين" الحديثة أو "التطوير المديني" التي يسلط عليها ضوءاً غامراً يلفت من خلاله نظر القراء إلى حقيقة أن هذه العملية لم تعد تتم وفق خطط محددة، وأساليب معروفة كما كان الأمر في السابق، وإنما أصبحت تتم في غالبية الأحيان تحت ضغط الحاجة، ولمواجهة تدفق سكان الريف على المدن هرباً من الفقر، وندرة فرص العمل، أو الحروب الأهلية، أو حتى بسبب السياسات النيوليبرالية "الليبرالية الجديدة" التي يتم تطبيقها دون تبصُّر في بعض دول العالم الثالث الفقير، إلى درجة يصح معها القول إن سكان المدن قد أصبحوا يشكلون أغلبية عدد سكان العالم في مقابل تناقص ملحوظ لسكان الريف (ما يؤخذ على المؤلف بالنسبة لهذه الجزئية من الموضوع أنه لم يبحث الأسباب الأخرى الشخصية غالبا التي قد تدفع رجلا أو امرأة ما لمغادرة قريته مثل الهروب من الثأر، أو البحث عن الحرية بعيدا عن قيود وانغلاق القرية، أو عن فرص أفضل للحياة أو الزواج). ويقول المؤلف أيضا إن معظم دول الجنوب الفقيرة قد تحولت الآن إلى مجموعة من الأحياء العشوائية سيئة التخطيط والمكتظة بالفقراء، وإن هذه المدن لم تعد تضم كما كان الأمر في الماضي أفراداً من الطبقة الوسطى حتى الشريحة الدنيا منها بعد أن أصبحت تفتقر إلى أبسط خدمات الصرف الصحي، وتكاد تخلو من منشآت الرعاية الصحية، وتخلو تماماً من المنشآت الترفيهية. وعلى الرغم من البؤس الذي يعيش فيه سكان تلك العشوائيات، إلا أن الحكومات التي غفلت عنهم، ولم توفر لهم المساكن اللائقة، تأبى -كما يقول المؤلف- أن تتركهم يعيشون في سلام بل تقوم من آن لآخر بمحاصرة تلك الأحياء، ومطالبة سكانها بإخلائها من أجل إقامة مراكز تجارية حديثة، أو أبراج سكنية، أو حتى إقامة فنادق صغيرة مؤقتة يسكن فيها لاعبو وإداريو الفرق المشاركة في الدورات القارية التي تقوم دول القارة بتنظيمها من حين لآخر. وقد نجح المؤلف في تفنيد عدد من الأفكار والتصورات غير الحقيقية، التي اقترنت بالأحياء العشوائية وسكانها ومنها على سبيل المثال: أن الجماعات التي تعيش في تلك الأحياء هي جماعات متكافلة، لديها القدرة على تنظيم أمورها، ولا تحتاج لتدخل أجهزة الحكومة، وكل ما تريده من الدولة هو أن ترفع يدها عنها، وتتركها في حالها. ومن بين هذه الأفكار أيضا أن سكان تلك العشوائيات يمتلكون القدرة المادية على بناء مساكنهم الخاصة من خلال الاستعانة بمقاولين من الباطن بدلا من انتظار إتمام الإجراءات البيروقراطية الحكومية التي قد تمتد إلى سنوات طويلة. ومن بينها كذلك أن تلك العشوائيات قد تحولت في كثير من الأحيان إلى مراتع لعصابات الجريمة المنظمة، ومافيات الاستيلاء على الأراضي، التي أدت إلى نشوء طبقة جديدة من ملاك الأراضي في هذه الأحياء، والتي سرعان ما يشق أعضاؤها طريقهم إلى الثراء، مكونين جماعات من الرأسماليين الصغار (على الرغم من أن الحقيقة المعروفة عن العديد من تلك الأحياء في مختلف دول الجنوب الفقيرة، وهي أن سكانها يدبرون لقمتهم يوما بيوم، من خلال العمل لدى الرأسماليين الصغار خارج حدود أحيائهم، حيث يخرجون من تلك الأحياء في الصباح الباكر للعمل لدى أصحاب المشروعات الصغيرة في أماكن أخرى في المدن، أو قريبا منها ثم يعودون إلى أحيائهم البائسة في المساء، ومعهم مبلغ ضئيل من المال يكاد يكفي بالكاد لتدبير الحد الأدنى من احتياجات أسرهم اليومية). ويتطرق المؤلف إلى حالات الاستغلال العديدة السائدة في تلك الأحياء، ومنها على سبيل المثال الاستغلال الذي يمارسه أصحاب المساكن على المستأجرين. وهذه الحالات الاستغلالية تعكس -كما يقول- صورة مزعجة وصادمة لأن بعض من يقومون بممارسة الاستغلال، ينتمون في الأصل إلى تلك الشريحة الفقيرة من السكان التي كانت قد استفادت -في فترات سابقة- من البرامج الاجتماعية التي قامت بها الحكومات الوطنية لتخفيف حدة الفقر.. ولكن أعضاءها استخدموا ما حصلوا عليه كأداة لاستغلال غيرهم من الفقراء، وكونوا طبقة جديدة متميزة ترتفع عن الطبقة التي تسكن هذه الأحياء عادة. لذلك، يقوم المؤلف بدعوة حكومات دول العالم الثالث الفقيرة، إلى إعادة تنظيم مثل هذه البرامج الاجتماعية، واستنباط برامج جديدة، حتى لا تقع الدولة في هذا الخطأ غير المقصود فتقوم بدلا من تخفيف حدة الفقر بدعم أناس يقومون باستغلال الآخرين وكذلك العمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه في هذه العشوائيات وأحزمة الفقر من خلال الإمكانيات المتاحة، ثم البدء بعد ذلك وبمساعدة من المنظمات غير الحكومية العالمية، ومؤسسات المجتمع المدني المحلية، بعملية إحلال وتجديد تدريجي في تلك العشوائيات