يجد "المحافظون الجدد"، الذين يتحكمون بالقرارات العليا في الولايات المتحدة حالياً، أنفسهم في ورطة لا يحسدون عليها! فالفضائح تلاحقهم، وما أن يجتازوا فضيحة حتى يجدوا أنفسهم يواجهون ما هو أخطر منها. وآخر هذه الفضائح/ التجاوزات، التي ربما تكون مؤثرة عليهم سلبياً إلى درجة كبيرة، هي سماح الرئيس الأميركي جورج بوش بتسريب اسم العميلة الأميركية التي تعمل لوكالة المخابرات المركزية، وذلك انتقاماً من زوجها الذي وقف موقفاً معارضاً لسياسة المحافظين وخططهم لغزو العراق. وبالإضافة إلى الفضائح التي تلاحق هذه الإدارة منذ اليوم الأول، يلازمها الفشل في كثير من سياساتها الاقتصادية والعسكرية. فالحرب على الإرهاب (بغض النظر عن الخلاف حول مضامينها) فشلت فشلاً ذريعاً، إذ ارتفعت وتيرة العمليات الإرهابية بدلاً من أن تنخفض. واحتلال العراق يتعثر، ومع ذلك، يتحدث نائب الرئيس ديك تشيني بعناد لا مثيل له عن نجاح إدارة بوش التي يمثلها في العراق، مؤكداً أن القوات الأميركية باقية حتى تنجز المهمة، وأن الانسحاب يحدده القادة في الميدان، وليس السياسيون في واشنطن في إشارة واضحة إلى الضغوط التي يمارسها نواب الكونغرس من الحزب "الديمقراطي" المعارض. وقد انضم إليهم لاحقاً بعض من الحزب "الجمهوري" الحاكم الذين باتوا يخشون من خسارة الانتخابات القادمة إن بقيت القوات الأميركية في العراق. فالحرب على الإرهاب التي كلفت الولايات المتحدة (300) مليار دولار لغاية الآن لم تفلح في وقف العمليات الإرهابية ولا هي انتهت بالفوز المؤزر الذي كان تحدث عنه الرئيس الأميركي في عام 2003.
تهدد الأزمة في العراق المخطط الاستراتيجي الأميركي في كامل منطقة الشرق الأوسط مما قد تكون له عواقب وخيمة على مشروع هيمنتها وسيطرتها العالمية، وخاصة أن الولايات المتحدة بدأت تفقد الكثير من نفوذها ومواقعها في أميركا اللاتينية على يد حركات "يسارية" ذات جذور شعبية عميقة ولها توجهات مناهضة للسياسات الأميركية! إن إدارة بوش الابن بصفتها –في نظر كثيرين- أكثر المعبِّرين عن مصالح الشركات متعددة الجنسيات والمجمع العسكري الصناعي قد أطلقت العنان للنزعة المتطرفة في علاقاتها الدولية مستخدمة في ذلك قوتها الهائلة من أجل الدفاع عن مصالحها الحيوية والجيواستراتيجية في مختلف أنحاء العالم بدءاً من أفغانستان، مروراً بالعراق، مع محاولة تدجين وترويض الفلسطينيين وفقاً للاحتياجات الإسرائيلية، وليس انتهاءً بتهديد إيران وسوريا والتحرش بفنزويلا وكوبا. إن التغيير الذي طرأ على لهجة الخطاب السياسي لإدارة بوش من "حرب على الإرهاب"، إلى "كفاح من أجل الحرية والديمقراطية"، لا يعني أي تغيير جوهري في الاستراتيجية السياسية والعسكرية؛ فالمجموعة التي تحكم الولايات المتحدة حالياً تسيطر عليها أيديولوجية مصممة على لعب أي دور يتيح لها ضمان امتيازاتها ومصالحها على حساب بقية العالم. ولذلك، خصصت ميزانية "دفاع" قدرها (440) بليون دولار تساوي مجموع ميزانيات الدفاع لبقية دول العالم الأخرى. ومن الواضح أن هذه الأموال الطائلة، ستنفق أميركياً على تطوير/ شراء منظومات أسلحة جديدة غاية في التعقيد بالإضافة إلى احتمالات التدخل العسكري المباشر أو احتلال بلدان مستقلة ذات سيادة وأعضاء في منظمة الأمم المتحدة. وما وجود (750) قاعدة عسكرية أميركية في العالم، إلا مؤشراً واضحاً على سياسة "المحافظين الجدد" وهي السياسة التي تتعارض غالباً مع الشرعية الدولية والقانون الدولي وهيئاته ومنظماته ومؤسساته في محاولة لتكريس قانون غير سوي في العلاقات مع المجتمع البشري والعلاقات الدولية. إن الاستفراد العلني والعدواني وازدراء الأمم المتحدة وحتى الحلفاء والأصدقاء على أساس أن "من ليس معنا فهو ضدنا"، بات نهجا يرفع رايته الرئيس بوش الابن. فبعد انتهاء الحرب الباردة وتشرذم ما كان يعرف سابقا بالاتحاد السوفييتي، تبنت الولايات المتحدة سياسة الاستفراد هذه التي قد تمتد إلى عقود طويلة.
أما الهجمات الإرهابية 11 سبتمبر 2001، فقد قدمت -على طبق من ذهب- الذريعة اللازمة لكي تحدث إدارة بوش تغيرا كاملا في السياسة الخارجية الأميركية. ومنذئذ، أصبح جوهر هذه السياسة الجديدة يستند إلى أساس عسكري أي توجيه ضربات أحادية ضد أعداء حقيقيين أو مزعومين. ولقد قربت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل على أساس أن الدولتين هما "ضحية موحدة" من ضحايا "الإرهاب الإسلامي". فقد برزت إلى العلن ظاهرة جديدة هي ظاهرة الانصهار المتكامل ما بين الأصولية المسيحية (وهو مذهب بوش الابن) والأصولية اليهودية (الدينية والعلمانية على حد سواء). وهذا التماثل والانصهار الأيديولوجي الديني يفسر مستوى التداخل العضوي والسياسي والاقتصادي بين الإدارتين وتقاسم وتكامل الوظائف بينهما وفقاً لمصلحة وإمكانيات كل منهما. ومع أن رعاية إقامة دولة إسرائيل قانونياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً في قلب الوطن العربي، والتعهد الدائم بضمان وجودها وأمنها ال