وإذا ما وضعنا كل تلك التغيرات في إطار واحد، فسيتبين لنا بوضوح أننا بصدد اختراع شيء جديد على ظهر الأرض وأن هذا الشيء يتمثل تحديداً في نظام ثوري لإنتاج الثروة.
وقد تنبه علماء الاقتصاديون إلى ذلك النظام في فترة مبكرة ترجع إلى عام 1962 وذلك عندما قام البروفيسور "فريتز ماتشلب" الأستاذ بجامعة "برينستون" بطبع كتابه- النبوءة الموسوم: "إنتاج وتوزيع المعرفة في الولايات المتحدة" والذي أظهر فيه أن الاقتصادات، بما فيها الاقتصاد الأميركي، غدت تعتمد بشكل متزايد على المعرفة. أما الاقتصاديون التقليديون فقد استمروا في الاعتماد على أدوات القياس، والنماذج، والأفكار، العائدة للعصر الصناعي.
وكمحصلة لذلك، فإن أهمية المعرفة -التي لابد لنا من الاعتراف بأنها من الأشياء الصعبة القياس- كانت تتزايد بشكل مطرد، في نفس الوقت الذي ازدادت فيه الصورة التي كان يتم تقديمها إلى جهات معينة بدءاً من المشروعات، والحكومات، والمؤسسات الدولية الرئيسية وحتى منظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة، انفصالا عن الواقع حتى وصلت إلى نقطة أصبحت الفجوة بين الصورة والواقع أكبر مما يمكن تجاهله.
ومن بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى عجز الاقتصادات عن التكيف مع المتغيرات الاقتصادية، تلك الصعوبة المطلقة التي يواجهها الاقتصاديون في التعريف الدقيق للمعرفة، والعمل المعرفي، وكيفية قياسهما، وكذلك الإجابة على العديد من الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع، ومنها على سبيل المثال: من هم العاملون في مجال المعرفة؟
هناك مشروع لتصنيف "فئات" الموظفين متداول على نطاق واسع، يقول إن المرء كي يكون من ضمن العاملين في حقل المعرفة، فإنه يجب أن يكون مهندساً، أو عالم رياضيات، أو أخصائياً في تقنية المعلومات، أو مدرساً، أو صاحب مهنة من المهن. والافتراض الذي يقوم عليه هذا المشروع، هو أن قوة العمل المعرفية هي حاصل جمع كل هؤلاء. وقد توصل هذا المشروع التصنيفي من خلال هذا المنظور إلى استنتاج مؤداه أنه قد غدا بمقدورنا حساب نسبة مساهمة تلك الفئات في إنتاج الدخل القومي الإجمالي وغيره من المتغيرات.
ولكن الحقيقة هي أن هذا الاستنتاج ساذج في أفضل الأحوال، ومضلل في أسوئها، لأنه يقلل بشكل جذري من قيمة التأثير الذي وصل إليه العمل المعرفي في الاقتصاد الحقيقي، وكذلك من عدد العاملين الذين يقومون بإنتاج المعرفة.
مع ذلك فإننا نجد أنه حتى في المجتمعات الأكثر تقدما، لا يزال الدور الحقيقي للمعرفة في خلق الثروة مقيما -في غالبية الأحيان- بأقل مما يستحقه. علاوة على أن علماء الاقتصاد وخبراءه، لازالوا حتى الآن غير قادرين -في معظم الأحيان أيضا- على إدراك الجوانب غير الظاهرة على السطح للعمل المعرفي.
وسيتعين على علماء الاقتصاد من أجل التكيف مع الأهمية المتزايدة للمعرفة، أن يقوموا بتقسيم تلك المعرفة إلى أنماط فرعية: فالمعرفة ليست واحدة، وليست لدى أنواعها المختلفة قدرة متساوية على إنتاج الثروة. لذلك نقول إن علماء الاقتصاد حتى في الحالات التي يقومون فيها بتصنيف العديد من الوظائف على أنها تندرج ضمن فئة الوظائف التي لا تحتاج سوى إلى مهارات محدودة -وبالتالي فإنها لا تندرج في فئة "العمل المعرفي"- يجب أن يعرفوا أن تلك الوظائف تحتوي على مكون معرفي في حقيقة الأمر.
يمكن فهم هذه النقطة أكثر إذا ما تناولنا المزارعين مثلا؟ إن المزارعين حتى الأكثر فقرا بينهم كانوا عبر التاريخ، في حاجة إلى الحصول على معرفة عن أنواع البذور والتربة والجو. واليوم نجد أنه في دولة مثل الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تقوم المنظمات الزراعية التي تمثل مزارعي الذرة والقطن وفول الصويا، بالتعاون مع "إدارة علوم الطيران والفضاء" لتعلم تقنيات "الزراعة الدقيقة" التي أصبحت ممكنة بفضل البيانات التي يتم الحصول عليها عن طريق الأقمار الاصطناعية، والطائرات التي تطير على ارتفاعات شاهقة.
يقودنا هذا إلى سؤال حتمي هو: هل يعتبر المزارعون من العاملين في مجال المعرفة؟.. وإذا كانوا كذلك، فهل هم عمال معرفة متفرغون أم أنهم عمال معرفة يعملون لنصف الوقت فقط؟
على العموم فإن نطاق العمل المعرفي في الاقتصادات المتقدمة سيصبح أوسع نطاقاً مما هو عليه الآن.. وذلك إذا ما أقر علماء الاقتصاد بأن هناك أشكالاً متعددة من المعرفة لها ضرورة اقتصادية. ومثل هذه الأشكال يمكن أن تشمل على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: المخزون المعرفي، والبصيرة الشخصية، وموهبة القيادة، وغيرها من المهارات الاجتماعية والثقافية والنفسية.
وهذه الصفات لا تحمل كلها نفس القيمة، كما أن تأثيرها ليس واحداً على النتيجة الإجمالية التي تحققها الشركات والمؤسسات في صورة ربح أو خسارة، أو حتى على الاقتصاد القومي، علاوة على أن تحديدها كيفياً وكمياً أكثر صعوبة.
مع ذلك نجد أن هناك طريقة أخرى يتم بها تصنيف العمل المعرفي إلى فئات ومن بينها تحديد ما إذا كان العمل المراد تصنيفه من النوع الذي يتم توليده، أو تخزينه، أو تبادله، أو تغييره. كما يمكن تصنيف