مازال النقاش الأميركي حول الحرب في العراق مستمراً في ظل إصرار الرئيس بوش على أن استراتيجيته التي قادت إلى الإطاحة بصدام حسين بعد غزو العراق صائبة لا يرقى إليها الشك. فرغم المصاعب الكثيرة التي يواجهها الوجود العسكري الأميركي في بلاد الرافدين والعنف المستشري في عموم أرجائه يظل بوش وأركان إدارته متفائلين بأنه في نهاية المطاف سيتمكن العراق من جني ثمار الديمقراطية وتصدير جزء منها إلى بلدان الشرق الأوسط التواقة إلى نفض غبار الأنظمة السلطوية التي استبدت بها لفترة طال أمدها. وهكذا فإن سياسة الإدارة الأميركية في العراق تتلخص في البقاء ومتابعة السياسات نفسها التي أطلقها بوش أول مرة عندما أمر قواته المسلحة قبل ثلاث سنوات بالزحف على العراق وغزو أراضيه في إطار حملة عسكرية شاملة استهدفت القضاء على قوات صدام حسين وإجباره على الاستسلام.
بيد أن بوش يواجه اليوم العديد من المصاعب داخل الولايات المتحدة، حيث يبدي الأميركيون شكوكاً متزايدة حيال سياسات إدارته ويحمِّلونه مسؤولية الإخفاقات التي يشهدها المشهد العراقي المتوتر. فقبل ثلاث سنوات وتحديداً عندما أعلن بوش حربه كان أغلب الأميركيين يؤيدون مغامرته العسكرية ويقفون وراءه، لكن ذلك التأييد تراجع اليوم بشكل ملحوظ، حيث تشير استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة إلى اعتقاد معظم الأميركيين بأن الحرب كانت خطأ فادحاً. ويضاف إلى ذلك أن شعبية الرئيس بوش تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ أن دخل البيت الأبيض، إذ لم يصرح سوى ثلث الجمهور بأنه قام فعلاً بعمل جيد يستحق التقدير. ولاشك أن موضوع العراق هو السبب الرئيس وراء فقدانه لشعبيته، لاسيما وأن بوش بات يعرف جيداً أن إرثه الذي سيخلفه، وما سيتذكره به التاريخ مرهونان بمدى نجاحه في العراق ومآل تدخله العسكري هناك. لذا نجده مصمماً على عدم سحب قواته، إلا في إطار صيغة معينة تحفظ ماء وجهه وتظهره على أنه جزء من النجاح المنشود.
وليس خافياً أن الأميركيين ما فتئوا يناقشون موضوع العراق في مجالسهم الخاصة وفي المنابر الإعلامية بسبب تعقد الوضع الأمني واستمرار سقوط ضحايا في صفوف القوات الأميركية، فضلاً عن أن عامل الوقت بات حاسماً في نفاد صبر الأميركيين، خصوصاً بعد مرور ثلاث سنوات واستمرار الوضع العراقي على ما هو عليه دون تحسن يذكر. ولعل ما يخيف الأميركيين هو انعدام الرؤية الواضحة في خطاب بوش حول كيفية حل الأزمة. فرغم تواتر الحديث عن استراتيجية الخروج من قبل أركان الإدارة الأميركية، فإنه لم يكشف بعد عن تفاصيل تلك الاستراتيجية، ولا عن كيفية تطبيقها على أرض الواقع، حيث يبقى السؤال عن الحل أو المستقبل مُشرعاً أمام خيارات عديدة في ظل المعضلات العراقية. ولعل من أبرزها وضعية القوات الأميركية في العراق، فهي تعتبر من ناحية جزءاً من المشكلة القائمة بالنظر إلى استهدافها المتواصل من قبل عناصر التمرد والتعامل معها كقوات احتلال يجب طردها من البلاد. ومن جهة أخرى يعتبر وجودها ضرورياً أيضاً لما تقدمه من مساعدة إلى العراقيين في مواجهة التمرد ووقف الاقتتال الداخلي.
ولئن كان الجنود الأميركيون قد استُقبلوا في البداية على أنهم محررون، فإنه مع مرور الوقت أصبح يُنظر إليهم كمحتلين وغزاة، خصوصاً بعد فشلهم في إرساء الاستقرار والديمقراطية الموعودين. والأنكى من ذلك أن العديد من العراقيين صاروا يعتقدون أن الولايات المتحدة ترغب في إدامة حالة الفوضى العراقية، لأنها لا ترغب في الظهور أمام العالم وكأنها فشلت في تنفيذ مشروعها في العراق وعموم منطقة الشرق الأوسط.
ولا ريب أن جزءاً مهماً من المشكلة تمثل في عجز القوات الأميركية عن التواصل الفعال مع مكونات الشعب العراقي ومحاولة فهم طريقة تفكيرهم بسبب عدم إجادة اللغة العربية أو الإحاطة بثقافة الشعب العراقي، وهو ما حال دون تقدم جهود الإعمار وتحقيق الازدهار. ويعزى هذا الفشل إلى طبيعة الجيش الأميركي الذي دُرِّب أساساً لخوض الحروب وليس لمساعدة الأهالي على بناء أنظمتهم السياسية وإقامة المؤسسات الديمقراطية. ولأن القوات الأميركية كانت تتعرض لهجمات المتمردين فقد اضطرت للانزواء بعيداً في قواعد عسكرية محصنة جعلتها منعزلة عن العراقيين ما صعب من عملية التواصل. فالجنود الأميركيون لا يشاهدون إلا وهم يجوبون الشوارع العراقية ويقومون بدوريات على متن عربات مصفحة تزيد من ترسيخ صورة المحتل في أذهان العراقيين. ويتفاقم الوضع أكثر في ظل مناوبة الجنود الأميركيين القصيرة نسبيا في العراق، حيث ما أن يبدأوا في فهم الناس والتعرف إليهم حتى تنتهي فترة خدمتهم ويغادروا العراق ليأتي آخرون جدد محلهم.
وتبرز المعضلة الأخرى من خلال حجم القوات الأميركية في العراق الذي يعتبر ضئيلاً وكبيراً في الآن معاً. فهو ضئيل لأن عدد القوات الحالي يعد غير كافٍ لبسط السيطرة على مساحة العراق الشاسعة والتعامل بفعالية مع المتمردين. كما أن الدراسات التي أجريت بهذا الشأن تظهر أن العراق يحتاج إلى ضعف العدد الحالي للقوات بأرب