من أين يأتي التهديد الرئيس للسودان اليوم: من المجتمع الدولي عبر الأمم المتحدة أم من سوء إدارة لأزمة دارفور؟ الإجابة التي ترد يومياً من الخرطوم في خطاب بالغ الحدة حافل بالاتهامات، هي أن التهديد يأتي من التدخل الأجنبي في دارفور.
هذا الخطاب السوداني الرسمي ليس جديداً، سمعنا مثله كثيراً من أطراف عربية أخرى رسمية وغير رسمية في كل أزمة يجري تدويلها. فالخطر دائماً في نوايا الخارج العدوانية وخططه التآمرية، أما الداخل فهو على ما يرام أو على الأقل لا مشكلة جوهرية فيه.
وعندما يقترن هذا الخطاب بشعارات توحي بأن خطة نشر قوات تابعة للأمم المتحدة في إقليم دارفور المنكوب تنطوي على مؤامرة أجنبية، لابد أن نسأل عن تكييف التدخل الأميركي المباشر الذي حدث في أزمة جنوب السودان وخارج إطار المنظمة الدولية؟
لقد رحب نظام الحكم السوداني بتدخل الولايات المتحدة في أدق تفاصيل مستقبل السودان، عبر اضطلاعها بالدور الرئيس في المفاوضات التي قادت إلى اتفاق للسلام.
لم يجد في هذا التدخل اعتداء ولا تآمراً ولا خطراً من أي نوع، تعاطى بإيجابية شديدة مع تدخل الولايات المتحدة التي يشك معظم دول العالم في نواياها بما في ذلك دول صديقة بل حليفة لها. ولكن عندما تحركت الأمم المتحدة للمساعدة في مواجهة مأساة دارفور، أعلن "الجهاد" ودعا إلى الاستنفار! فيا لها من مفارقة لا يفيد في تفسيرها الاتهام الذي يوجه ضد المنظمة الدولية بأن الولايات المتحدة تسخّرها لخدمة خططها وأهدافها. فهذا اتهام لا محل له في حالتنا هذه، لأن الخرطوم لم يستفزها تدخل الولايات المتحدة منفردة بل هيمنتها على مفاوضات تسوية أزمة الجنوب. فليس منطقياً أن أقبل الدور الأميركي منفرداً ثم أرفض دور الأمم المتحدة لأن الولايات المتحدة قد تستخدمه. فإذا كان الخطر في الأميركيين، فالمفترض أن يكون هذا الخطر أكبر إذا تدخلوا منفردين، فيما يكون أقل حين يتدخلون مع آخرين.
كما أن الافتراض الخاص بتسخير أميركا للأمم المتحدة لم يثبت في كل الحالات، بدليل عجزها عن استصدار قرار من مجلس الأمن لغزو العراق واضطرارها إلى شن الحرب دون غطاء من الشرعية الدولية.
فما السر، إذن، وراء الموقف السوداني الحاد اليوم ضد دور الأمم المتحدة.. وهل نجد تفسيراً لهذا الموقف في أن التدخل الأممي الجاري الإعداد له سيكون عسكرياً، فيما كان التدخل الأميركي سياسياً؟ من الصعب أيضاً أن نعتمد على هذا التفسير لسببين: أولهما أنه لم يكن في إمكان أحد تقدير المسار المحتمل لتطور التدخل الأميركي في مفاوضات حل أزمة الجنوب لو أن هذه المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، واتهم الأميركيون حكومة الخرطوم بأنها هي التي تتحمل المسؤولية الأولى عن فشلها. لقد قبلت الخرطوم تدخلاً أميركياً كنا نعرف بدايته دون أن يكون ثمة يقين بشأن نهايته.
أما السبب الثاني والأكثر أهمية الآن، فهو أن إرسال قوات تابعة للأمم المتحدة إلى أي بقعة في العالم، لا يعتبر تدخلاً عسكرياً، إلا إذا كانت الدولة التي ترسل إليها هذه القوات تعتبر نفسها هي المسؤولة عن إيجاد وتصاعد الأزمة التي تذهب القوات الأممية للمساعدة في تهدئتها ميدانياً لدعم فرص حلها سياسياً.
كما أن خطة الأمم المتحدة لنشر قوات في دارفور لا تتضمن مشاركة أي جندي من خارج العالم العربي والإسلامي، إلا من بعض الدول الآسيوية. فهذه الخطة تقوم على نشر 20 ألف جندي يتمركزون في أكثر من عشرة مواقع في جنوب وغرب دارفور وعلى الحدود السودانية- التشادية. وستكون قوات الاتحاد الإفريقي الموجودة حالياً في دارفور، وقوامها سبعة آلاف جندي، هي نواة قوات الأمم المتحدة. ويعني ذلك أن هذه القوات لن يتم الاستغناء عنها، وإنما ستضاف إليها قوات أخرى، وستأتي هذه القوات الجديدة من دول عربية وإسلامية. فإذا لم يتيسر تجنيد العدد الباقي (13 ألفاً) من هذه الدول، سيتم اللجوء إلى دول آسيوية لا يمكن أن تعتبرها الخرطوم معادية أو متآمرة. وفي كل الأحوال استبعدت خطة الأمم المتحدة مشاركة أي قوات أميركية أو أوروبية تجنباً لأي حساسيات.
ولا يقل أهمية عن كل ذلك، إن لم يزد، أن نشر قوات دولية في دارفور ليس هو الهدف الذي تسعى إليه الأمم المتحدة، فالخطة، التي ما زالت قيد الدرس والتشاور، تعتبر نشر هذه القوات وسيلة لتهدئة الأوضاع على الأرض ووقف الانتهاكات التي لم تستطع قوات الاتحاد الأفريقي محاصرتها كلياً، وإن حققت نجاحاً جزئياً في ذلك. فالتهدئة ضرورية لتدعيم فرص نجاح مفاوضات حل الأزمة. وهذا هو هدف الخطة التي ستقترح إقامة منبر دولي مماثل لمنظمة شركاء الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا (إيغاد) التي أسهمت بدرجة كبيرة في التوصل إلى اتفاق السلام الذي أنهى الحرب الأهلية في جنوب السودان.
فليس هناك، إذن، ما يدعو إلى "الجهاد" والاستنفار، فالسودان ليس في خصومة مع الأمم المتحدة، ولا يصح أن يكون. فهذه المنظمة الدولية هي التي نلجأ إليها عرباً ومسلمين سعياً إلى استرداد حقوقنا أو الحفاظ عليها. ويستند كل جهد عربي في قضي