قرابة ما يزيد على شهر، لم يكن المرء ليصدق أن جورج دبليو بوش لم يسمع قط عن شركة، "بينانسولار آند أورينتال نافيجيشن كومباني" أو لم يكن لديه دليل يمكن أن يفيده في معرفة ما ترمز إليه الحروف (DP World). لكن العاصفة السياسية التي هبت عبر الولايات المتحدة عند سماع نبأ بيع الشركة الأولى "بينانسولار آند أورينتال نافيجيشن كومباني" وهي شركة تعمل في مجال الشحن وإدارة الموانئ وكانت تقوم بالفعل بإدارة العمل في عدة موانئ أميركية إلى الشركة الثانية (DP World) هزت أركان البيت الأبيض.
وكان رد الفعل المفاجئ للمغالين في الوطنية تجاه التهمة القائلة "إن العرب سيقومون بإدارة موانئنا" مبالغاً فيه، إلى درجة لم تجد العقلانية أمامها من مفر سوى الهروب من النافذة. فرغم أن البعض حاولوا تقديم حجج معقولة، مثل أن الإمارات دولة صديقة وأن موانئها آمنة تماماً، وأن الحقيقة أن عدة وكالات وسلطات أميركية هي التي تقوم فعلياً بالإشراف على حركة المواد القادمة إلى البلاد عبر الموانئ، وأن هناك شركات أخرى وإنْ كانت غير عربية إلا أنها متعددة الجنسيات تقوم بإدارة عمليات الموانئ الأميركية، لكن تلك الحجج تعرضت للاجتياح من قبل تيارات الجهل والحسابات السياسية.
بيد أن الحقيقة هي أن هذه النكسة غير المتوقعة تحمل شبهاً غريباً بحالة أخرى تعرضت فيها حكومة إمبراطورية "محافظة" تغلّب اعتبارات الأمن القومي على ما عداها إلى إهانة مماثلة منذ مئة عام ونيف. كان ذلك في ربيع عام 1903، حين تعرضت حكومة "المحافظين" البريطانية التي يقودها رئيس الوزراء "آرثر بلفور" إلى ضربة شديدة بفعل حادث معروف في التاريخ باسم "أزمة سكة حديد بغداد". فهذه الأزمة في وقتها هزت حكومة كانت تؤمن بأن كل ما قامت به هو التوقيع على صفقة أعمال معقولة. بدلاً من ذلك وجد الوزراء الكبار أنفسهم يواجهون عاصفة سياسية هوجاء. وكانت "الصفقة" موضوع البحث تضم مصرفيين بريطانيين وفرنسيين جاءوا إلى العراق للانضمام إلى مشروع ألماني لتأسيس محطة سكة حديد تمتد من أسطنبول إلى بغداد. لم يكن لدى الشركة الألمانية القائمة على المشروع رأس المال الكافي لإتمام الخط بينما كان لدى البيوت الاستثمارية في لندن وباريس الكثير من النقود.
كان الرأي الغالب في الاجتماعات التي تتم بين الوزارات المختلفة داخل الحكومة البريطانية (والتي تشبه إلى حد ما اللجنة الوزارية التي قدمت المشورة للبيت الأبيض بشأن صفقة شركة دبي بورتس وورلد) قد توصل إلى استنتاج مؤداه أن الترتيبات الخاصة بالمشروع لا تشكل أي مشكلات.
في الحقيقة كانت الصفقة البريطانية كريهة الرائحة إلى حد ما لأنها كانت ستحول بين برلين وبين الإنفراد بتنفيذ المشروع مع ضمان أن الوجود الألماني في المنطقة كان سيشكل كابحاً لتجسد الاحتمال الأكثر إثارة للقلق بكثير والخاص بتنامي النفوذ الروسي في الشرق الأدنى. وعلى هذا الأساس تم النظر إلى هذه الصفقة على أنها صفقة رابحة لجميع الأطراف المشتركة فيها.
ولكن الشيء الذي لم تضعه حكومة "بلفور" في حسبانها كان الكره الغريزي المتنامي للنفوذ الإمبراطوري الألماني الذي كان يظهره الرأي العام البريطاني وخصوصاً أصحاب التوجه اليميني الوطني ولكن كذلك ممن كانوا يسمّون في ذلك الوقت بـ"الإمبرياليين الليبراليين" (شيء يشبه صقور الديمقراطيين في أميركا). في ذلك الوقت كانت كلمة "ألماني" تثير حساسية البريطانيين تماماً مثلما تثير كلمة "عربي" و"مسلم" حساسية بعض الأميركيين في الوقت الراهن.
كانت تلك الدوائر من البريطانيين تكره التجارة والسياسات الجمركية الألمانية. وكانت تشعر بالقلق من نمو ما يعرف بـ"أسطول أعالي البحار". وقد لاحظ هؤلاء أن هناك نوعاً من الخوف المرَضي من الإنجليز في ألمانيا ذاتها، وتوصلوا إلى خلاصة مؤداها أن العلاقات الأنجلو- الألمانية علاقات عدائية لا أمل في علاجها.
وعندما انفجر غضب هؤلاء الوطنيين عند سماعهم لأنباء الصفقة العملية الوشيكة فإن هذا الانفجار كان عنيفاً للغاية، كما كان يحمل في طياته نذراً مشؤومة من الناحية السياسية. وتعرضت الحكومة لانتقادات متنوعة منها أنها تصرفت بسذاجة، ولم تقم بفحص الحقائق بشكل سليم، وأنها كانت متراخية ووافقت على إجراء يعرّض أمن بريطانيا القومي للخطر. المهم أن الرأي قد استقر في النهاية على أن موقف الحكومة من تلك الصفقة لم يكن موفقاً من الناحية السياسية.
والشيء الذي لم يكن يقل عن ذلك في الأهمية هو تأثير ما حدث على العلاقات الحساسة بين بريطانيا وألمانيا وهي علاقات تشبه في حساسيتها تلك القائمة الآن بين الولايات المتحدة والعالم العربي. وإذا ما كان الرأي العام البريطاني الشوفيني في ذلك الوقت يعارض أي شيء لمجرد أنه "ألماني"، فإن ذلك كان يتيح لصناع السياسة في ألمانيا أن يتوصلوا إلى استنتاجاتهم الخاصة.
السؤال الأخير بعد الهزيمة النكراء التي تعرض لها البيت الأبيض بشأن موضوع الموانئ، مؤداه: ألن يؤدي ذلك إلى التأثير سلباً على الاستثمارات الأجنبية في أميركا؟