كان السقوط المحتوم للنظام "المايوي" في السودان واضحاً للمراقبين والمشاركين في اللعبة السياسية منذ الأشهر الأخيرة من عام 1983؛ فالنظام الذي استهلك طوال سنوات حكمه كل الأساليب والحيل السياسية والعقائدية إلى درجة ادعاء إمامة المسلمين وأخذ البيعة الشرعية، والمشير الإمام، كان قد وصل إلى قمة التهالك الداخلي وعجز وفشل تماماً في أن يدرك خطورة القضايا السياسية والاقتصادية والحياتية التي كانت تواجه جماهير "شعبه العزيز" كما كان يحلو له أن يخاطب الشعب السوداني. المجاعة الحادة التي واجهت المواطنين في دارفور والتي حاولت السلطة إخفاءها عن أنظار السودانيين والعالم إلى درجة أنها أسمتها بالفجوة الغذائية, كانت آثارها الواضحة قد وصلت حتى أطراف أم درمان (عاصمة السودان التاريخية) ممثلة في معسكرات النازحين في المويلح وغيرها من المعسكرات. وأخبار القتال الضاري في جنوب البلاد والحالة المزرية التي كانت عليها القوات المسلحة السودانية من حيث العتاد والاستعداد وحتى التموين, كانت مادة يومية يتداولها السودانيون. وكانت فضيحة ترحيل يهود الفلاشا إلى إسرائيل من داخل الأراضي السودانية وما صحبها من رشاوى وفساد، تجاوزت أخبارها السودان إلى العالم العربي والعالم الخارجي، ووضعت النظام العروبي وقائده في قفص الاتهام.
لذلك لم يكن أمر انهيار وسقوط النظام "المايوي" في التحليل النهائي أمراً مختلفاً عليه, فقط كان السؤال الذي يواجه المعارضة الشعبية الواسعة كيف ومتى سيتم الإجهاز على النظام الديكتاتوري شديد الشراسة؟!
وعاد السودانيون إلى استلهام تجربتهم التاريخية الفريدة في أكتوبر عام 1964 واستخرجوا منها سلاحهم المجرب، الوحدة الوطنية الشعبية والإضراب السياسي المنظم، الذي كانت التعبئة له تجري منذ فترة طويلة تحت راية "التجمع الوطني لإنقاذ البلاد" و"التجمع النقابي الديمقراطي". وهكذا انفجرت انتفاضة أبريل بداية بخروج الطلاب في المواكب والمظاهرات التي انضمت إليها جماهير الشارع الواسع وقادتها الطلائع النقابية المهنية والعمالية ولم تقتصر على الخرطوم وحدها بل إن الشرارة قد امتدت إلى الأقاليم في زمن قياسي. ولم تفلح كل محاولات بقايا النظام "المايوي" و"الاتحاد الاشتراكي" والشائعات المنظمة التي أطلقوها في الحد من حماس الناس وتخويفهم. وعندما دعا الاتحاد الاشتراكي (وكانت أدوات السلطة وإذاعتها تحت سيطرته) جماهيره للخروج في "موكب الردع" لم يجد من تبقى من قيادات النظام من تلك الجماهير سوى قبض الريح. وخلال الأيام الثلاثة التي سبقت إعلان الفريق سوار الذهب (وزير الدفاع والقائد العام آنذاك) بيانه الشهير وإعلان قيام المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بدا النظام، وقد تعرى من ورقة التوت، فالضباط الوطنيون في القوات المسلحة والشرطة رفضوا أن يضعوا قواتهم في مواجهة جماهير الشعب السوداني لأنهم حسب تعبير أحدهم (لا يمكن أن نطلق الرصاص على آبائنا وأمهاتنا وأخواتنا وإخواننا)، وبعدها أدرك أصحاب النظام قبل خصومه أن صفحة مايو طويت. وأن صفحة جديدة في تاريخ السودان الحديث قد افتتحت تحت مسمى أبريل.
تجربة انتفاضة أبريل الشعبية الديمقراطية رغم قِصر عمرها وما أحاط بها من مؤامرات ودسائس وقِصر نظر تمتع به بعض السياسيين الذين ركبوا موجة المد الجماهيري، كانت وستبقى علامة مضيئة في تاريخ النضال الشعبي السوداني من أجل الديمقراطية والعدالة والسلام. وقد لا تتكرر انتفاضة أبريل بحذافيرها, ولكنها قطعاً جزء من مكونات ومخزونات الشعب السوداني في مسيرته التي قد تتعثر وقد يبدو أحياناً طريقها مسدوداً، ولكنه في نهاية الأمر سيحقق طموحه المشروع في السلام الدائم والعدل والحرية لكافة السودانيين.