تعد تلعفر الواقعة في محافظة نينوى العراقية, إحدى المدن القليلة التي طالما تباهينا بإنجازاتنا فيها مؤخراً. وما جعل من هذه المدينة موضوعاً لتباهي إدارة بوش وطغيان أخبارها على خطابيتها عما تدعيه من إنجازات فيها, أن القوات الأميركية تمكنت العام الماضي, من إخلائها من المتمردين ومن استعادة السيطرة الأمنية عليها. وقد بلغ ذلك التباهي حداً, جعل الرئيس بوش, يكرس خطاباً كاملاً للحديث عن الدروس الواجب تعلمها من تجارب المدن ومحطات التفتيش البعيدة الواقعة في أقاصي العراق. هذا وقد استنتج الرئيس في خطابه المذكور, الذي بدا للصحافة والصحفيين على الأقل, كما لو كان تعميماً لوصفة إنجازات إدارته في تلعفر, أنه وبنقل السيطرة ومهام حفظ الأمن في هذه المدن العراقية البعيدة, إلى يد قوات الأمن والشرطة المحلية, ما يعزز ثقة العراقيين في أنفسهم وقدراتهم, بما يدعم الشعور بأن في مقدورهم تقرير مصيرهم ذاتياً.
غير أن الذي حدث, هو تأجيل موعد تسليم المدينة المذكورة لقوات الأمن العراقية, بسبب نوايا البيت الأبيض, الرامية إلى خفض عدد القوات الأميركية في العراق إجمالاً إلى نحو 100 ألف جندي فحسب. لكن ومهما يكن من أمر هذه النوايا, فإن المؤكد أنه يجب استثناء مدينة تلعفر من قرار كهذا, بسبب خطئه وعدم حكمته. وبما أنني قضيت جزءاً من شهر يناير الماضي هناك, فإنني أستطيع القول إنها تمثل قصة نجاح حقيقي لقواتنا. ويمكن رؤية ما أحرز من نجاح وتقدم فيها, بمجرد إطلال الزائر عليها من وراء جدران القصر العثماني, الذي شيد فيها قبل عدة قرون. فما أن نجحت القوات الأميركية في دحر هجمات المتمردين, ووضعت حداً لأعمالهم التخريبية فيها, حتى سارعت واشنطن إلى إنفاق ملايين الدولارات على إعادة بنائها. ومن جانبها ساهمت القوات الأميركية في المدينة, بإطلاق نحو 150 مشروعاً من مشروعات البنية التحتية والنظافة. كما تمكنت الكتيبة ذاتها من ضرب طوق أمني حول المدينة, وذلك بإنشاء 29 قاعدة من قواعد الدوريات الأمنية والعسكرية, فضلاً عن تواجد عدد من دبابات "أبرامز", وإعادة بناء القوات الأمنية المحلية من مرحلة الصفر تقريباً. وفوق ذلك, تمكنت قوات هذه الكتيبة, من زرع نفسها في قلب بيئة سكانية كانت معادية يوماً ما, مما جعل منها ملاذاً أمنياً عازلاً للنزاعات والمواجهات الطائفية التي تنشأ من حين لآخر بين سكانها.
وبالطبع فإن كل ذلك لا يشير مطلقاً إلى أنه قد تم إخماد نار التمرد بالكامل واستئصال شأفته. فأثناء وجودي هناك, جرى تبادل محموم لإطلاق النار حولي مباشرة, تبين لي فيما بعد, أنه كان نزاعاً بين وحدة أمنية سُنية تابعة للشرطة, وأخرى شيعية تابعة للجيش العراقي. لكن وبالمقارنة إلى حالة الحرب المفتوحة التي سادت المدينة قبل وصول القوات الأميركية إليها, فلم تكن المناوشة المسلحة التي دارت حولي, سوى مؤشر على الخطر الأمني الذي يمكن أن تنزلق إليه المدينة, عند غياب القوات الأميركية أو انسحابها منها. وكما قال لي الشيخ عبدالله الياور, وهو من أكبر وأبرز الشخصيات السُّنية هناك, فإن المدينة مهددة بأن تسيل أنهاراً من الدماء, لحظة مغادرة القوات الأميركية لها.
وبهذه المناسبة نذكر أن الرئيس بوش قد خصص جزءاً كبيراً من خطابه الأسبوعي الأخير, لنقل عبارات الشكر والعرفان التي بعث بها عمدة مدينة تلعفر لقيادة كتيبة الفرسان الثالثة, على تحريرها للمدينة وتخليصها إياها من قبضة المتمردين والإرهابيين. ولكن الذي فاته أو قصد تجاهل ذكره في ذلك الحديث, هو أن العمدة نفسه, ما كف عن مواصلة التماسه المتكرر للرئيس بوش, بضرورة استمرار بقاء الكتيبة المذكورة مكانها في المدينة! والحقيقة أنه ليس في نية الإدارة سحب قواتها من تلعفر, أو من أي مدينة أخرى من المدن العراقية المختلفة. وما الحديث الرائج حالياً حول نوايا خفض عدد القوات المرابطة في العراق, إلا استجابة منها للضغوط السياسية الممارسة عليها, أكثر من كونها تعبيراً صادقاً عن أهداف استراتيجية.
ومع انتباه الإدارة لتورطها في حرب عصابات استنزافية طويلة الأمد, لجأ قادة الحرب إلى تشجيع الجيش على خفض وجوده العسكري هناك –فيما بدا إحدى مسلمّات واشنطن اليوم- إلى جانب التركيز على مكافحة التمرد, وهي مهمة لا تستدعي وجود وحدات عسكرية كبيرة على حد رأيهم. غير أن شبح الحرب الأهلية, وليس التمرد, هو الخطر الأكبر الذي يهدد الولايات المتحدة حالياً في العراق. وخلافاً لما هو عليه التمرد, مع ملاحظة أن ما سببته فيه القوات الأميركية من مشكلات, يفوق حجم إنجازاتها في مكافحته عسكرياً وأمنياً على نطاق العراق كله -فإن الدور الواقع على هذه القوات في حال نشوب حرب أهلية, لهو في غاية الضرورة والحيوية, خاصة عندما يرتبط بالحيلولة دون ذبح العراقيين لبعضهم بعضاً. ومن أدل الأمثلة على ذلك تمكن الجنود الأميركيين وحدهم من السيطرة على أحداث العنف الوحشي التي شهدتها نقطة الشرطة الشيعية في مدينة تلعفر. فقد تمكن الأميركيون وحدهم من مقاومة التمرد, ومد يد