ـــــــــــــــــــــــــــ
قامت صحيفة "فاينانشيال تايمز" اللندنية بإسداء خدمة جليلة للولايات المتحدة في عددها الصادر نهاية الأسبوع حين دعت في افتتاحيتها إلى فتح نقاش صادق وصريح حول ما لإسرائيل من تأثير على السياسة الخارجية الأميركية. وقد جاءت هذه الدعوة وسط الصمت المطبق الذي يسود الدوائر الأميركية "المسؤولة" بخصوص المقالة التي نشرها مثقفان سياسيان يحظيان بالاحترام والتقدير هما "ستيفان والت" من جامعة هارفارد، و"جون ميرشيمار" من جامعة شيكاغو، واللذان بحثا فيها دور "اللوبي الإسرائيلي" في واشنطن وتأثيره على العلاقات الخارجية الأميركية.
اللافت أن صحفاً أميركية قليلة تُعد على أصابع اليد الواحدة، وهي "يونايتد بريس إنترناشيونال" و"ذي إنترناشيونال هيرالد تريبيون" و"ذي كريستيان ساينس مونيتور" و"وول ستريت جورنال" و"واشنطن بوست"، هي التي علقت على المقالة. وفي هذا الإطار، نشرت "ذي إنترناشيونال هيرالد تريبيون" مقالاً هو عبارة عن وجهة نظر لـ"دانييل ليفي"، المستشار السابق لإيهود باراك، دعا فيه إلى الحديث حول موضوع اللوبي بصراحة وصدق. فيما آثرت كل من "ذي يونايتد بريس إنترناشيونال" و"ذي كريستيان ساينس مونيتور" نشر تقارير إخبارية على نحو مهني حول الموضوع.
أما الصحيفتان الأخريان فقد نشرتا هجوماً– بل هجومين في حالة "ذو واشنطن بوست"- يحمل كلاهما أخباراً مؤداها أن التافه "ديفيد ديوك"، الزعيم السابق لجماعة "كيو كلاكس كلان" العنصرية، أشاد بمقالة "ميرشيمار" و"والت". والواقع أن "ديوك" ليس من الأشخاص الذين تحظى وجهات نظرهم عادة بالنشر في "واشنطن بوست" على اعتبار أنها تفتقد إلى أهمية وطنية. أما الهجوم الثاني فتمثل في سعي الصحيفة إلى ربط "ديوك" هذا بمقالة "ميرشيمار" و"والت"، وهو عمل أساء كثيراً إلى هذين المثقفين.
والحقيقة أن المقالة استأثرت مع ذلك بالاهتمام في الولايات المتحدة، حيث تعج المواقع الشخصية على الإنترنت بتعليقات أثارتها المقالة، تتراوح ما بين الهجوم عليها والدفاع عنها والإشادة بها. واللافت أن المؤلفين نفسيهما توقعا أن التيار الغالب في الصحافة الأميركية إما أنه سيتجاهل مقالتهما أو أنه سيهاجم المقولة التي ترتكز عليها المقالة، وهي أن تأثير إسرائيل على السياسة الأميركية من القوة بحيث يستطيع تغييرها حتى تتماشى مع مصلحة إسرائيل، وأحياناً على حساب المصلحة الأميركية.
يقولون إن أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة قد نجحوا في إقناع الأميركيين بأن المصالح الوطنية الأميركية والإسرائيلية متلازمة، وهو ما ليس كذلك، كما حاولوا وكثيراً ما نجحوا في قمع ومعاقبة مناقشة هذه العلاقة مناقشة نقدية. وما يبعث على الذهول حقيقة هو حدة وحجم الهجومات التي استهدفت مؤلفي المقالة، ولعل محاولة تلطيخ سمعتهما وربطهما بـ"كيو كلاكس كلان" مثال واضح على ذلك. كما سعى البعض إلى مقارنة مقالتهما بالدعاية النازية لسنوات الثلاثينيات وتزييفات العهد القيصري مثل "بروتوكولات حكماء صهيون" (الذي ما يزال متداولاً في العالم العربي).
وواقع الحال أن "ميرشيمار" و"والت" مثقفان سياسيان يحظيان بكثير من الاحترام فيما يعرف بالتقليد الواقعي، الذي يعتبر الدفاع عن المصالح الوطنية للدول وتشجيعها الهدف الرئيسي لأي سياسة خارجية. إلا أن السم الذي تحتوي عليه هذه الهجمات التي تستهدف المقالة ومؤلفيها قد تؤدي إلى نتائج غير تلك ينشدها من يقفون وراءها، ذلك أن موقفهم إنما يؤكد حقيقة أن ضغوطا قوية تمارس على الناشرين والمحررين والكتاب والجامعات الأميركية لمنع النقد، وترهيب النقاد، وتفادي الخوض في نقاشات جادة حول العلاقة الأميركية- الإسرائيلية.
ما يثير الاستغراب في الواقع هو أنه في إسرائيل نفسها تم فتح نقاش صريح وجاد على مدى سنوات حول هذا الموضوع. وقد حذرت شخصيات مهمة، من بينها ضباط متقاعدون ومسؤولو الاستخبارات إضافة إلى نشطاء السلام، في ما مضى من أن ما يقوم به أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة قد يرتد في نهاية المطاف على إسرائيل نفسها، مع قد يحمله ذلك من أذى لليهود في أماكن أخرى. وعلاوة على ذلك، يلاحظ عدد من المراقبين أن اللوبي الرئيسي، وهو "لجنة العلاقات العمومية الأميركية الإسرائيلية"، يقف في مواقفه وآرائه إلى يمين الرأي العام الإسرائيلي، كما أنه تدخل في السياسة الإسرائيلية بدعمه لحزب "الليكود" وإضعاف إسحاق رابين.
تتناقض نبرة الخوف والذعر التي تحملها بعض الهجومات التي استهدفت "ميرشيمار" و"والت" مع حقيقة أن ما يقوله هذان المثقفان ليس بسر في دوائر السياسة الخارجية الأميركية. كل ما هناك هو أن الناس قد سلموا لسنوات بالرقابة غير الرسمية، أو الرقابة الذاتية، التي تمارس في الحكومة والصحافة حول هذا الموضوع.
ولكن المشكلة في حالة إسرائيل تكمن في أن جهود اللوبي وضغوطه ترتبط بحكومة أجنبية، حتى وإن اختلفت سياسات اللوبي أحيانا عن تلك التي تتبناها الحكومة. وقبل هذا وذاك، فإن نشاط اللوبي في هذه الحالة يتعلق ب