بعد ثلاث سنوات على إعلان الرئيس بوش "إنجاز المهمة" في العراق، يبدو أن هذه الحرب الغريبة والمزعجة لم تزدد إلا غرابة وإزعاجا. فهي غريبة لأنها خيضت منذ البداية من دون فهم عميق للبلد الذي قمنا بغزوه، وفي غياب مخطط استراتيجي، ولأنه لم يصدر حتى هذه اللحظة أي اعتراف بالفشل، كما لم تجر محاسبة المسؤولين عنه. وهي مزعجة لأن العواقب الوخيمة التي نجمت عن هذا الإخفاق ما فتئت تنمو وتتفاقم مع مرور الأيام.
وقد سلط الضوء على هذه المحصلة مقالان لصحفيين أميركيين، وسجالٌ علني ونادر دار بين مسؤولين في إدارة جورج بوش في الأسابيع الأخيرة. ولنبدأ بالسجال أولا، ففي محاولة منها لصرف الأنظار عن المظاهرات المعادية للحرب التي قوبلت بها أثناء زيارتها إلى بريطانيا، أقرت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بأن الإدارة الأميركية ارتكبت "أخطاء تكتيكية، بل الآلاف منها "في العراق. كما لمّحت رايس إلى أنه لا يقر بتلك الأخطاء ولا يعمل على إصلاحها سوى ذوو "العقول الميتة"، واعتبرت أن التاريخ وحده هو الكفيل بالحكم حول ما إن كان قرار الحرب قرارا استراتيجيا صائبا.
وبعد نحو أسبوع على ذلك، حين سُئل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد عن رأيه حول تصريحات الوزيرة رايس قال "لا أعرف عمّ كانت تتحدث"، وتابع قائلا إن أولئك الذين قالوا إن أخطاء ارتكبت "إنما يفتقرون إلى الفهم الصحيح لما تعنيه الحرب".
وكما يشير إلى ذلك جورج باكار (مؤلف "بوابة القاتل: الأميركي في العراق") في مقاله الأخير المنشور بمجلة "ذا نيويوركر"، فإن كلا من رايس ورامسفيلد مخطئ. فالأخطاء التكتيكية المرتكبة في هذه الحرب كثيرة وعديدة، ولكنها تعزى جميعها إلى "الخطيئة الأصلية" للحرب –والمقصود هنا أنها ارتكزت على رؤية إيديولوجية قاصرة لا تجد لها سندا في الواقع. والحقيقة أنني كثيرا ما أشرت في المقالات التي كتبتها إلى "أضغاث الأحلام الصبيانية" التي حركت مهندسي الحرب –"الصدمة والترويع"، "زهور في الشوارع"، "العراق كمنارة للديمقراطية في الشرق الأوسط"، إلخ.
لقد عمدت القيادة المدنية للبنتاغون التي استنارت بهذه الرؤية إلى التقليل من شأن الدعوات المنادية بتوخي الحذر والسخرية منها، وأقدمت على تنفيذ برنامج "استئصال البعث"، وفشلت في توفير الأمن والخدمات للمدنيين العراقيين، كما قللت من شأن صعود الجماعات المتمردة، إلخ. وقد قارن باكار في مقاله بين الأداء الناجح والقصير للقوات الأميركية مؤخرا في تل اعفر والنهج الأوسع للحرب، ليستخلص أنه لا يمثل سوى إنجاز صغير ومتأخر.
ويبدو أن الطريق الذي باتت تنهجه الإدارة الأميركية في الوقت الراهن هو طريق "تبسيط" تعريف النصر، وإيجاد طريقة ما لتقليل الظهور الأميركي. كل ذلك مع الاحتفاظ بحضور عسكري مخفض والتزام سياسي طويل الأمد تجاه العراق، وهو ما يبعث على الاعتقاد بأن إخفاقا "يشبه ذاك الذي حدث في فيتنام" هو الآن قيد التشكل.
أما الصحفية المخضرمة هيلين توماس فاعتبرت في مقال نشر مؤخرا بمجلة "ذا نيشان" أن زملاءها في وسائل الإعلام يتحملون نصيبا من مسؤولية الحرب في العراق. ذلك أنهم لم يقوموا بالطعن في المبررات التي استندت إليها الإدارة الأميركية قصد شن الحرب، وبدلا من ذلك ساهموا في دق طبول الحرب، وتحولوا إلى جهة "ساذجة" و"متواطئة" و"غير متشككة" تريد ما تقوله الإدارة.
وتختتم توماس مقالها: "لو أن الصحفيين سلطوا الضوء على العيوب التي تعتري سياسات حرب إدارة بوش، لكانوا استطاعوا إنقاذ البلاد من أزمة قلبية وفقدان أرواح أميركية وعراقية".
وفي غضون ذلك، يظل الديمقراطيون، الذين يمثلون المعارضة، ممزقين بين القاعدة المعارضة للحرب وبعض الزعماء الانتهازيين الذين إما أنهم يعتقدون أنه من الأفضل التزام الصمت في وقت تبدو الإدارة غارقة فيما صنعته يداها، أو خائفون من الإتيان بتحد مباشر، ولا يرغبون في أن يُتهموا بالوقوف موقف ضعيف حيال قضايا الدفاع والأمن القومي.