أثارت الذكرى الستون لقيام منظمة اليونيسكو العالمية، في نفسي شؤوناً وشجوناً. كنتُ عائداً لتوي من مدينة مسقط بعُمان، التي هي في عام 2006 عاصمةٌ ثقافية عربية- وفي الوقتِ نفسِه على أثر حضور مؤتمرٍ فيها أقامته وزارة الأوقاف والشؤون الدينية عن "مقاصد الشريعة" لدى الأصوليين والفقهاء، ومدى إسهامها عبر العصور في الاجتهاد والتجديد. وفي الطائرة، قرأْت خبرين: خبر إطلاق سراح أكبر غانجي، المثقف الإيراني الذي سُجن لسنواتٍ لتشكيكه في أحقية وصلاحيات رجال الدين في السلطة "ولاية الفقيه"، ومنهم من قال: بل ولتشكيكه في عصمة الأئمة أو في المهدي المنتظَر. أما الخبر الثاني فهو نجاح عبدالرحمن ( الذي أجهَلُ باقي اسمه) الأفغاني المرتدّ في الهرب من بلاده إلى إيطاليا، قبل أن يجري اعتقالُهُ أو اغتيالُه! وفي الطائرة أيضاً، وفي الصحف التي اقتنيتُها من مطار دُبي قرأتُ عن فعاليات مؤتمر الشيخ القرضاوي بالبحرين، والذي أُقيم دفاعاً عن الرسول عليه الصلاة والسلام، في وجه الرسوم الدانمركية المسيئة من جهة، ورداً على ما فعله عمرو خالد من إقامة مؤتمرٍ قبل ثلاثة أسابيع بكوبنهاغن لعرض صورةٍ أُخرى للدانمركيين عن الإسلام، والنظر في مصالحتهم مع الإسلام والمسلمين! الشيخ القرضاوي ما قبل بذاك الأسلوب، وأراد أن يتوافر الاحترامُ المتبادَل في مقابل الاعتراف المتبادَل، وليس بدون ثمن!
ولو شئتُ هنا لتابعتُ ما حدث في عالمنا العربي والإسلامي في الشهرين الماضيين من أحداث القتل والتدمير دفاعاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أمورٌ ما درى بها الدانمركيون، ولستُ أدري لماذا تأكل النارُ بعضَها إنْ لم تجد ما تأكلُهْ؟! لكنني لا أُريدُ المُضيَّ في التأملية المتشائمة هذه، بل الانصراف إلى تأمُّل مسألة اليونيسكو والنزعة الإنسانية في أطوار بنائها وتجددها، والمواقف السائدة من حقوق إنساننا في مجالنا، قبل أن نسأل عنها لديهم، أي لدى الغرب، الذي نلعنه ويلعننا، ونشنُّ عليه حروباً لفظية، ويجيبُنا بحروبٍ عالميةٍ على الإرهاب!
تبلور النزوع الإنسانوي في مؤسساتٍ على أثر الحرب العالمية الثانية، التي تركت عشرات الملايين من القتلى، وعشرات الملايين من الأسرى، وعشرات الملايين من المشرَّدين، إضافةً لإباداتٍ عنصرية، وجرائم أخلاقية متنوعة وضدّ الإنسانية. ظهر ميثاق الأُمم المتحدة 1945. وقامت مؤسسة اليونيسكو أواخرَ العام نفسه، لبناء وتطوير ثقافة إنسانية الإنسان، والدعوة لنبذ التفرقة العنصرية، ودعم قيام وتطور المجتمعات المدنية المقاومة للتسلط المحلي أو الإقليمي أو الدولي. ثم في 10 مايو عام 1948 صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يؤكّد على الحقوق الأساسية لسائر بني البشر باسم إنسانيتهم بغضّ النظر عن أي اعتبارٍ آخر من عِرْقٍ أو لونٍ أو دين أو جنس.
وما كانت تلك الإعلانات كاملةً ولا أنتجت هيئات بدون شوائب. فلأنها ظهرت بعد حروبٍ هائلةٍ أثارتْها الفاشياتُ الأوروبية؛ فقد كانت تملكُ ميلاً غلاّباً ضد السلطة، أي سلطة. وقد جرى توجيهُها إبّان الحرب الباردة ضدّ الطرف الآخَر فيها، أي الاتحاد السوفييتي وحلفائه. ثم إنها أيضاً وأيضاً بسبب ظروف نشأتها اتجهت إلى شبه تأليهٍ للإنسان الفرد والإنسان/ النظرية أو المبدأ. وبذلك جرى تجاهُلُ الخصوصيات الدينية والثقافية، أو التقليل من شأنها باسم الرسالة الحضارية وأيديولوجيا التقدم، التي سبق للمستعمرين أن تحججوا بها.
وما وقّعت على الوثائق والإعلانات الدولية أكثر الدول العربية في السنوات الأولى، لأنها وببساطة ما كانت قد استقلت بعد في حين تحفظت على بعض البنود الدولُ القليلةُ المستقلة لمخالفتها للإسلام، أو لظروفٍ خاصةٍ بالدولة نفسِها. فمصر والسعودية وباكستان تحفظت على الحق في الزواج بدون اعتبارٍ للدين أو للون أو للعرق أو للطبقة، بسبب الأحكام الفقهية الإسلامية التي لا تُبيحُ للمسلمة الزواج بغير المسلم. لكنّ الطريف أنّ الهند التي كانت تملكُ نظاماً طبقياً مغلَقاً يشكّل تمييزاً عنصرياً، ما تحفظت على البنود الحاملة على العنصريات. وحجة جواهر لال نهرو وقتها أنّ طبقية الهند غير إنسانيةٍ فعلاً، ولابد من إزالتها، والاستعانة بالمؤسسات الدولية للتطوير والتحرير في المدى المتوسط. وعلى أي حالٍ، فما انقضت خمس سنواتٍ حتى بدأ النقد الثقافيُّ للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومن جانب العرب والمسلمين. العقّاد وعلي عبدالواحد وافي اعتبرا الإعلانَ ممتازاً؛ لكنّ الإسلام يملكُ ما هو أفضلُ، ولذلك فقد استغربا تجاهُلَ الغربيين من واضعي الإعلان (ما شارك في وضعه غير عربي واحد هو اللبناني شارل مالك!) لإسهامات الإسلام والمسلمين. لكنْ منذ أواسط الخمسينيات وإلى اليوم، يستمر النقد للإعلان العالمي، وللعهود والمواثيق الملحقة به والخاصة بالمرأة والطفل وصولاً لوثيقة التنوع الثقافي في مطالع القرن الحادي والعشرين. وحجة الناقدين منذ الشيخ محمد الغزالي ومحمد فتحي عثمان، أنّ الإعلان يقومُ على الحق الطبيعي للإنسان، وهذا شِركٌ وتأليه