هل سيتحول الفيروس المسبب لمرض أنفلونزا الطيور إلى وباء قاتل للبشر على نطاق واسع؟ أم أنه سيختفي مع مرور الزمن ويتلاشى؟ يعتمد الجواب على الجهة التي يستقي منها المرء معلوماته حول الموضوع. فإذا كنت ممن يصغون إلى ما يقوله بعض خبراء الصحة في الولايات المتحدة فلاشك أنك ستغلق جميع نوافذ منزلك وتعزل نفسك في الداخل. ففي الشهر الماضي فقط أعلن عالم الفيروسات الدكتور "روبرت ويبستر" المعروف بأبحاثه في مجال الأنفلونزا على شاشة التلفزيون الوطني أن: "المجتمع لم يصل بعد إلى مرحلة يمكن أن يتقبل فيها أن 50% من السكان معرضون للوفاة". وقد جاءت هذا النبوءة الهستيرية من عالم جاد ويحظى بالتقدير لتفاقم من التصريحات السابقة التي أطلقها الدكتور أنتوني فوسي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، وقال فيها إن مرض أنفلونزا الطيور: "هو قنبلة موقوتة تنتظر الانفجار". ويضاف إلى سيل التصريحات المخيفة تلك ما قالته الدكتورة "جولي جيربوردينج"، مديرة مركز مراقبة الأمراض والوقاية من أنها وهي تتفق مع مواقف الخبراء السابقين في أن تفشي وباء أنفلونزا الطيور: "مسألة وقت لا أكثر". والملفت أنه حتى وزير الصحة الأميركي "مايك ليفيت" طرح مؤخرا الفكرة الغريبة التي تدعو إلى التفكير في إغلاق المدارس وتخزين المعلبات الغذائية.
بيد أن العلم الجاد والمتخصص الذي يبحث في طبيعة عمل الفيروس قد لا يؤيد كل تلك النبوءات. والواقع أن دراستين مهمتين نشرتا الشهر الماضي في إحدى الدوريات العلمية المرموقة تشيران إلى أن الفيروس المسبب لمرض أنفلونزا الطيور مازال بعيدا عن الانتقال بسهولة إلى البشر، ومازالت تنتظره تغيرات جوهرية قبل التحول إلى وباء. كما أن الفيروس يستوعَب بيسر أكبر من قبل الجيوب الداخلية في رئات الطيور، بينما الأنفلونزا العادية تعلق في الخلايا العليا من الجهاز التنفسي. ولكي نبحث عن المعلومات الصحيحة حول أنفلونزا الطيور علينا الاحتكام إلى المختبرات العلمية والتجارب العملية بدل اللجوء إلى المؤتمرات الصحفية، أو شاشات التلفزيون، وهو ما نجده بالخصوص عند الأطباء البيطريين الذين قضوا وقتا طويلا في دراسة الفيروس وفهم طبيعته. الدكتور "ديفيد سواين"، مدير مختبر متخصص في دراسة الطيور بوزارة الزراعة الأميركية أجرى بحوثا متعددة على أنفلونزا الطيور طيلة السنوات السابقة وتوصل إلى أنه بإمكاننا محاصرة المرض لدى الطيور والحيلولة دون انتقاله للبشر. وقد أكد على إمكانية القضاء النهائي على المرض شريطة توفر "أدوات أفضل للتشخيص وتحسين استراتيجيات حماية الطيور من الإصابة".
وفي السياق نفسه أعلنت الدكتورة "إليزابيث كروشينسكي"، رئيسة الجمعية الأميركية لأمراض الطيور أنه: "ليس هناك ضغط جيني على الفيروس H5N1 لكي ينتقل إلى الإنسان، بل يمكنه أن ينحصر فقط في الطيور". وفي شكله الحالي يعتبر الفيروس أكثر خطرا على الطيور منه على الإنسان. والدليل على ذلك أن الإصابات البشرية الأولى التي ظهرت في هونج كونج سنة 1997 تبين أن 10% منها استطاعت تطوير مضادات حيوية قاومت الفيروس ولم تصب قط بالعدوى. ويعني ذلك أنه حتى في المناطق التي تنتشر فيها حالات الإصابة بفيروس أنفلونزا الطيور من الصعب أن تظهر على الإنسان أعراض المرض، لاسيما وأن الطرق التقليدية لانتقال العدوى مثل السعال أو العطاس لا تنقل الفيروس، ناهيك عن اختفاء الفيروس عند طهي الدجاج. وبدلا من الانخراط في التنبؤات التي لا تستند إلى أساس علمي صَلب وتبث الرعب في نفوس الجمهور، يجدر بالسلطات المعنية أن تنكب على مراقبة المرض وتطويقه لدى الطيور والكف عن إطلاق التحذيرات المرعبة.
لكن يبدو أن موجة التخويف التي تنتشر في بعض البلدان لم تنتهِ بعد في ظل التصريحات المتلاحقة لبعض المؤسسات التي انتقلت هذه المرة إلى التحذير من القطط وباقي الحيوانات اللاحمة بعدما سجلت حالات أنفلونزا الطيور لدى القطط المنزلية. ففي مجلة "نيتشر" العلمية نشر مجموعة من العلماء الأوروبيين دراسة تحث الأشخاص الذين يعيشون في مناطق سجلت فيها حالات إصابة الحيوانات الأليفة بأنفلونزا الطيور بإبقاء قططهم داخل المنزل. يشار هنا إلى أن هؤلاء العلماء ينتسبون إلى مركز "إراسموس" الطبي في هولندا، وإلى منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة. وقد انتقد هؤلاء العلماء في دراستهم الهيئات العلمية الأخرى التي كانت قد نفت وجود دلائل تثبت نقل الحيوانات المنزلية للفيروس إلى الإنسان، وطالبت الدراسة بضرورة توخي الحذر وإجراء المزيد من الأبحاث للتأكد من سلامة القطط المنزلية. وفي إطار الدراسة نفسها قام الدكتور "ألبرت أوسترهوس"، عالم الفيروسات في مركز "إراسموس" الطبي بإجراء تجارب مخبرية على القطط ليتبين أنها قادرة على نقل الفيروس فيما بينها، لكن دون التأكد مما إذا كانت قادرة على فعل ذلك في الحياة الواقعية، أم أن النتائج تقتصر على المختبر. وبالرغم من أن علماء الأوبئة لم يحددوا بعد وتيرة انتقال الفيروس بين الحيوانات اللاحمة، بما فيها