هناك شبه إجماع تقريباً, على من يجب أن يقع عليه وزر المسؤولية عن كل هذه الفوضى المتفشية في العراق الآن. ويتمحور هذا الإجماع حول العراقيين أنفسهم. فمنذ لحظة شن الحرب, حطم العراقيون قلوب الكثير من "محافظينا الجدد" ومهندسي الحرب, لعدم استقبالهم لقواتنا باعتبارهم محررين, وبامتناعهم عن الترحيب بنا بباقات الورود والرقص في الشوارع المؤدية إلى العاصمة بغداد كما خيل لنا. ولا يزال ذلك الشعور المقيت بنكران العراقيين للجميل الأميركي,يحرق قلوب الكثيرين هنا في واشنطن. ففي الأسبوع الماضي فحسب, شكا "دانييل بابيبس"– رئيس "منتدى الشرق الأوسط", وأحد كبار منظري "صقور" واشنطن- من تنكر العراقيين لذلك الجميل, الذي لولاه لما تحرروا مطلقاً من نير استبداد نظام صدام حسين. والحقيقة أن أكثر ما يسيطر على حديث الدوائر السياسية هذين اليومين, تعنت العراقيين في تشكيل حكومة وحدة وطنية متعددة الديانات والأعراق والثقافات. فقد مرت على الانتخابات العامة التي أجريت في العراق, أربعة أشهر, دون أن تتمكن خلالها مختلف الفئات والطوائف العراقية من الاتفاق على صيغة لاقتسام السلطة في بلادهم, ترضي كافة القواعد الشعبية الناخبة هناك.
إلى ذلك فقد جاء في الحديث الذي أدلت به كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية للصحفيين, أثناء ظهورها المشترك مع نظيرها البريطاني جاك سترو, في بغداد يوم الاثنين الماضي، ما معناه "وحتى هذه اللحظة, فقد وفرنا للعراقيين كل المساعدات الملائمة التي يتوقعها أي شعب محرر. فلدينا قوات عسكرية على الأرض, قدمت الكثير من التضحيات, ولذلك فإن لنا الحق في أن نتوقع أن تمضي عملية تشكيل حكومة الوحدة الوطنية العراقية, على قدم وساق". وعموماً فإن فكرة "بعد كل الذي فعلناه لهم" هذه, ليست مجرد نغمة متكررة يرد ذكرها على لسان كل مهندسي الحرب على العراق مؤخراً. ولكن الحقيقة أن العراقيين لم يتسولونا يوماً لغزو بلادهم أو تحريرها من قبضة صدام. والحقيقة أيضاً أننا غزونا العراق لأسباب لا علاقة لها بخير العراقيين ولا سعادتهم. والمؤسف أن الذي تكشف لنا أخيراً, أن ذلك الغزو لم يعد له علاقة حتى ولا بخير الأميركيين وسعادتهم أيضاً! وعلى الرغم من غبطة العراقيين بسقوط نظام صدام حسين, فإن الثمن الذي دفعوه مقابل نيل حريتهم, لهو أكبر وأفدح من أي خسارة تكبدتها الولايات المتحدة, وحليفتها بريطانيا. فأي خسارة تفوق انهيار الاقتصاد الوطني, وإمساك التمرد والعنف الطائفي بتلابيب وأسباب الحياة كلها في عراق اليوم؟ وعلى رغم الصعوبة العملية المحيطة بالحصول على إحصاءات دقيقة لعدد القتلى في أوساط المدنيين العراقيين, فإن معظم التقديرات تذهب إلى تقديرهم بحوالي 30 ألفاً على الأقل, جراء حربنا على بلادهم. والملاحظ هنا أن العدد المذكور, لا يشمل آلاف الجنود وقوات الشرطة العراقية, الذين لقوا حتفهم جراء الحرب والمواجهات المسلحة نفسها.
قوات التحالف الدولي, وبإسقاطها لنظام صدام حسين, إنما أطلقت في الوقت ذاته, مارد الفتنة الدينية والطائفية من قمقمه في العراق. والمعلوم أن القبضة الحديدية الباطشة لنظام صدام, هي التي سيطرت على ذلك المارد, وكتمت عليه الأنفاس. ثم جاء التحالف الدولي وأسقط ذلك النظام, دون أن يبلور هو أو واشنطن أو العراقيون, أي صيغة لضمان الاستقرار السلمي والسياسي لعراق ما بعد صدام.
وطالما حانت لحظة الاعتراف بما ارتكبناه هناك, لنقل إن الضغوط المكثفة التي تمارسها واشنطن على العراقيين, بغية حملهم على التوصل إلى حل سريع للأزمة السياسية الماثلة, إنما هي بحد ذاتها بين أكبر "الأخطاء التكتيكية" التي يجب الإقرار بها. ففي شهر سبتمبر الماضي, حذرت "المجموعة الدولية للأزمات" من أن تسريع وتعجيل العملية الدستورية هناك, قد أدى سلفاً إلى تفاقم الصدع والخلافات بين المسلمين السنة والشيعة والأكراد. يذكر أن وزير الخارجية السابق كولن باول, كان قد حذر الرئيس بوش من خطر قانون "كسر الجرة" قبيل شن الحرب على العراق. وهاهي الجرة العراقية وقد انكسرت الآن واندلق السمن والحليب, فماذا جنينا؟!
ــــــــــ
روزا بروكس
كاتبة ومحللة سياسية أميركية
ينشر بترتيب خاص مع "خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"