لقد أعادت المواجهات العنيفة التي جرت بين الأكراد والقوات الأمنية التركية خلال الأسبوع الماضي إلى الذاكرة, كوامن نزاع قديم متجدد بين الطرفين, لا يزال يحتفظ بكامل خطورته وكونه عائقاً كبيراً في طريق تركيا, وسيرها نحو الديمقراطية والازدهار. فعلى إثر مضي عقد كامل من الهدوء والاستقرار, سقط أثناء حملات الاحتجاج التي جرت الأسبوع الماضي, ما لا يقل عن 15 شخصاً, مات معظمهم في المنطقة الكردية الواقعة جنوب شرقي البلاد –حيث تدور حرب العصابات بين القوات الكردية والحكومية- إلا أن منهم من سقط في شوارع اسطنبول. وكان من بين صرعى تلك المواجهات, طفل في السادسة من عمره, وشيخ مسن في السابعة والثمانين, يُدعى "هاليت سوجت". وقد تساءل أهل هذا الشيخ دهشة, عن كيف يحدث عنف بكل هذه الوحشية والدموية, في دولة تطمح لنيل حقها ومكانتها اللائقة بها بين دول الاتحاد الأوروبي؟!
وعلى سبيل المقارنة, ذهب أحد أقارب الشيخ المتوفى –وهو ابن أخيه "ديفريم", البالغ من العمر 25 عاماً- إلى القول إن فرنسا شهدت مظاهرات وحملات احتجاج شعبية واسعة, بلغ عدد المشاركين فيها نحو 700 ألف متظاهر ضد مشروع قانون العمل الجديد, دون أن تسيل فيها قطرة دم واحدة, فكيف حدث ما حدث هنا في تركيا, على رغم الفارق الكبير بين عدد المتظاهرين هنا وهناك في فرنسا؟! هذا وتكهن المتحدث بأن تستمر حملات التظاهر والاحتجاج, حتى تنال الأقلية الكردية حقوقها كاملة من السلطات التركية.
ضحايا التمرد الكردي المطالب بحقوق تلك الأقلية العرقية في جنوبي تركيا, قد تجاوز عددهم 30 ألفاً في عقد الثمانينيات. لكن وبعد مضي سنوات من الهدوء والسلم النسبيين, لا يزال الأكراد منقسمين على أنفسهم, حول ما إذا كانوا سيعودون لاستخدام العنف مجدداً, أم يأملون في الحل السلمي لمشكلتهم, فيما إذا كانت الضغوط المستمرة على تركيا من قبل الاتحاد الأوروبي, سترغم السلطات التركية على تغيير سياساتها إزاء مواطنيها الأكراد في نهاية المطاف؟ وتعود جذور الاحتجاجات ومواجهات العنف الأخيرة هذه, إلى عدة عوامل وتطورات معقدة شهدتها الساحة التركية الكردية, منها أحداث وقعت خلال العامين أو الثلاثة أعوام الماضية, على إثر إعلان "حزب العمال الكردستاني" عن عدم التزامه بوقف أحادي لإطلاق النار, كان قد دعا إليه منفرداً في عام 1999. ثم تطورت مراسم تشييع 14 من مقاتلي الحزب في مواجهات مع القوات الحكومية, يوم الثلاثاء الماضي, إلى مواكب ومسيرات احتجاج ضخمة, سرعان ما دب إليها العنف والعنف المضاد بين الجانبين في يوم الأربعاء الماضي.
تعليقاً على ذلك قال أحد أقارب الشيخ القتيل "سوجت" –رفض ذكر اسمه لأنه يعمل موظفاً حكومياً- "لست من مؤيدي عنف الدولة ولا أي شكل آخر من أشكال العنف. وقد لقي منا حتى الآن حتفهم ما يزيد على 30 ألفاً, وأعتقد أنه قد حان الوقت لوضع حد لهذه العمليات الوحشية". والشاهد أن هذه التعليقات, تعكس الكثير من التساؤلات الدائرة في أذهان الأكراد, حول التكتيكات والأساليب ووسائل العمل التي يتبناها "حزب العمال الكردستاني", علماً بأنه يعتبر منظمة إرهابية في تصنيف كل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي. وهناك من يرى من الخبراء أن حملات ومواكب الاحتجاجات الحالية, ليست سوى تعبير عن طريقة أخرى, يسعى بها الحزب لإيجاد دور له, في ظل واقع اقتصادي وسياسي متحول في تركيا, بما في تلك التحولات, تقديم بعض التنازلات في سبيل إيجاد حل للمسألة الكردية.
وقد شملت هذه التحولات –التي لم يحدث معظمها إلا تحت الضغط المتواصل على الحكومة التركية, من قبل الاتحاد الأوروبي- رفع قانون الطوارئ عن الإقليم الكردي في جنوب شرقي البلاد, فضلاً عن البدء بتعويض الأكراد المتضررين من إزالة القوات الحكومية لقرى كردية بحالها, خلال المواجهات التي شهدها عقد الثمانينيات. كما شملت التحولات أيضاً, منح الحكومة التركية, بعض الحقوق الثقافية للأقلية الكردية, منها حق التعليم باللغة الكردية الأم, وكذلك حق النشر والإعلام باللغة الأصلية.
لكن وعلى رغم كل هذه البوادر الإيجابية لتحول الموقف الرسمي الحكومي إزاء حقوق الأقلية الكردية, فإن شكاوى الأكراد تستمر, إذ يرى الكثيرون منهم أن ما تحقق ليس كافياً بعد. ويثيرون في ذلك مثلاً, تدني مستوى الأجور وارتفاع معدلات البطالة في منطقتهم, متبوعاً بانخفاض مستوى وحجم الاستثمارات الأجنبية في الإقليم ذاته, مقارنة ببقية الأقاليم والمحافظات التركية الأخرى. ولم تكن المظاهرات ومواكب الاحتجاج التي شهدها الأسبوع الماضي, سوى تعبير عن هذا الشعور الطاغي بالغبن والإحباط. وإذا كان هناك ما يحسب إيجاباً لرئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوجان, فهو اعترافه على الأقل, بالمشكلات ومشروعية المطالب التي يثيرها الأكراد, خلافاً لتجاهلها وتناسيها من قبل كافة رؤساء الوزراء السابقين.
لكن وعلى أية حال, فما أكثر الوعود والتعهدات التي تقطعها الحكومة على نفسها في هذا الشأن, دون أن يتحقق منها ما يكف